الوعي الذي يميز الإنسان عن سائر الكائنات منشأه المجتمع وليس الفرد. فلو افترضنا أن طفلاً عاش مع الحيوانات منذ ولادته حتى شبابه، من المستحيل أن يكون واعياً. وقد أثبتت التجربة العلمية هذه الحقيقة بعدّة نماذج، كان أبرزها العثور على فتاة في العشرينات من العمر؛ حسب الفحوصات الطبية؛ تربت في الغابة مع الحيوانات. وقد خُصّصَ لها فريق من العلماء الذين لم يستطيعوا تعليمها حتى المشي على اثنتين، فضلاً عن الكلام والتفكير الإنساني. أي أن تلك الفتاة هي بيولوجياً من البشر، ولكنها اجتماعيا ليست بشراً.
إذا كان الوعي هو إنسانية الإنسان ذاتها؛ فماذا يحدث إذا أُصيب هذا الوعي بالشلل أو التوقف؟ ولماذا بالأصل يصاب الوعي بالشلل أو يتوقف؟
إمكانية الإصابة بالشلل أو التوقف لا يمكن أن يحدث إلا لظاهرة متحركة وليست ثابتة! وهذا معناه أن لا وجود لوعي ثابت. أي أن الوعي إذا توقف لأي سبب من الأسباب فإنه قد مات، وبالتالي تكون إنسانية الإنسان قد ماتت! فكيف يتسنى لنا إذن فهم «حركة الوعي» والتعامل معها؟
مظاهر الوعي تتلخص بـ«التواصل الاجتماعي»، كاللغة الكلامية والجسدية؛ والعمل الفيزيائي والفكري؛ والتفكير العلمي والإبداعي؛ والممارسة الإنتاجية بأشكالها المختلفة؛ الروتينية منها والفنية. ومظاهر الوعي هذه هي نتاج اجتماعي؛ تاريخياً وجغرافياً؛ وكذلك تواصلاً وتفاعلاً بين المجتمعات.
تتكون المجتمعات؛ بالطبع؛ من أفراد. وبقدر ما نقول: إن الوعي والإنسانية هي ظاهرة اجتماعية، لا نغفل دور الفرد. فالظاهرة الاجتماعية لا بد لها من التجسد في أفراد. ولو لاحظنا طفلاً منذ ولادته؛ نراه يتعلم من «محيطه» الاجتماعي المشي والكلام؛ ثم المدرسة؛ التي تعلمه التجربة العلمية والإبداعية التي سبقته؛ ومن هنا تأتي أهمية المناهج الدراسية؛ وصولاً إلى الجامعة التي تعلمه توظيف هذه المعرفة من أجل التطور الاجتماعي اللاحق. وقد لا تتوفر للبعض «الفرصة» للتعلم في المدارس والجامعات، ولكن هذا لا يعني أنه لا يملك الوعي؛ فهو يكتسبه من «التواصل» مع محيطه.
ألّف الكاتب الروسي الشهير «مكسيم غوركي» رواية بعنوان «جامعتي». وعندما تقرأ الرواية تجد أنه لم يتعلم سوى القراءة والكتابة، ولا يوجد ذكر لأي جامعة. ما أراد قوله غوركي: هو أن الحياة العامة؛ وبالذات الحركة الاجتماعية الثورية؛ هي التي علمته ليكون في مصاف خريجي الجامعات؛ بل يفوقهم!
المحصلة العامة للمشهد هي: أن الوعي مكتسب وليس غريزة، وهو ينمو مع الزمن ولا يمكنه أن يتوقف! أي أنه في حركة تصاعدية دائمة مهما كانت ضئيلة! وهو أيضاً في نموّه ذاك، لا يمكنه أن يتجاوز محصلة التجربة البشرية مهما كان سريعاً.
التلقين هو السبب الرئيس لشل القدرة على توظيف الثروة المعرفية، ولكن «النرجسية» هي السبب لشل الوعي كاملاً. فالمفترض أن النرجسي هو الفرد الذي يرى نفسه فوق المجتمع! وبالتالي يعتقد أنه هو مصدر التطور كفرد وليس المجتمع! وبالتالي يجب على الجميع «تطبيق» ما يراه هو كـ«فرد» صحيحاً! أي ينزع عن نفسه صفته الاجتماعية! أي صفته الإنسانية!
إني لأعجب من أستاذ جامعي مرموق؛ يعترض على تدريس الفلسفة في الجامعات السعودية! ... هل النرجسية بلغت حد التسلط والاعتداء على حقوق الأجيال الصاعدة؟ فالفلسفة هي العلم الوحيد الذي يمكّن أولادنا وبناتنا من توظيف معارفهم ضمن منهجية للتفكير! أي أنهم يصبحون قادرين على انجاز متطلبات التنمية! أم أنك أيها «النرجسي» تريد « شل تفكيرهم بالتلقين» الذي ابتدعته أنت وأمثالك، ثم تتركهم ضحية لأجهزة «التواصل الاجتماعي» الذكية! إذا كنت ترى في الفلسفة إثارة لتساؤلات لا ترتضيها، فمن الواجب عليك أن تفند تلك التساؤلات وتجيب عنها، أم أنك غير قادر على ذلك وأنت «فوق المجتمع»؟
** **
- عادل العلي