د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قبل أربعمائة عام أو نحوها، وفي غرب العالم القديم، كان الصراع لأجل الدين، أو باسم الدين سائداً، ولم يكن ذلك غائباً في جهات أخرى من العالم، وكان استغلال الإعلام المتاح لتأجيج المشاعر، وزرع الكره وتثبيته إلى حين، أمراً مألوفاً، وكان السواد الأعظم يرتدي تلك الحلة مدفوعاً بالحاجة إلى توفير لقمة العيش، أو إيماناً بالهدف والمراد، أو تقمصاً للشعار المرفوع طلباً للوصول إلى الجاه والمال.
كان الإعلام المتاح في الشمال الأفريقي المسلم الديانة، هو الكتب، والشعر، وفتاوى الفقهاء، والتواصل المباشر، أما في الجنوب الأوروبي، بل وأروبا جميعها فإنه بالإضافة إلى ما ذكر يلعب المسرح دوراً إعلامياً إضافياً لزرع ما يريده الحاكم من توجه يمليه عليه ما يستهويه.
ولأن الملك فيليب الثالث كان كاثوليكياً متزمتاً جداً، وزوجته أكثر منه، وما حوله من مستشارين وأساقفة، قد تم اختيارهم له ليسيروا على نهجه، فهو لم يكن حاذقاً وإنما ترك الأمر لمعلمه ليرما، الذي يرى الإسلام شراً لذا خطط لأن يصبح طرد المسلمين المنتصرين ممكناً رغم أنهم قد تركوا دينهم مجبرين.
من ضمن الكتب التي استخدمت كإعلام لتأجيج المشاعر هو كتاب الأسقف دييغو دي أيدو، الذي ألفه عام 1612م ، وقد صور الأسقف مسلمي شمال أفريقيا، معتمداً على بعض أقوال الأسرى الكاثوليكية العائدين من الشمال الأفريقي، والذي ذكر فيه بأن سكان تلك البلاد متوحشون وبدائيون، ويمكن تأكيد عدم تمدنهم في نظامهم الغذائي، وممارساتهم الجنسية، وطريقة تربيتهم للأطفال، ومعاملاتهم للنصارى، ومعاملاتهم مع بعضهم، كما وصفهم بأنهم جشعون، ومؤمنون بالخرافات، وفاسقون، وساديون. من البديهي أن تربط تلك الصفات السلبية غير الحقيقية بالمورسكيين ذوي الأصول الإسلامية، والجذور شمال الأفريقية العربية والبربرية، هذا الكتاب وأمثاله من وسائل الإعلام المتاحة، والموجهة، جعلت العامة أكثر حقداً على المورسكيين، وأكثر قبولاً لطردهم، رغم أنهم الجيران، والأصدقاء، والأنساب، وزملاء العمل، والمبدعين في مهنتهم، كما جعلتهم ينظرون إليهم بدونية، وعدم تكافؤ، وترسخ في أذهان القشتاليين الإسبان أنهم يمثلون قمة الحضارة، لذا من الصعب عليهم أن يعيش بين ظهرانيهم شعب همجي يرتبط في ماضيه بثقافة إسلامية، كما يزعمون.
الحقيقة المنصفة أن المسلمين عندما دخلوا إسبانيا لم يكن لديها حضارة إطلاقاً، وكان حكامها من القوط الغزاة غير الإسبان، جعلوها في غابة الجهل والفقر، لذا لم يواجه المسلمون أي مقاومة تذكر، واستولوا عليها بأقل العدد، والعدة، وبخسائر لا تذكر، ولولا المنافسات فيما بينهم والاقتتال لتيسر لهم حكم أوروبا بسهولة، حيث كانت تكتسي بظلام دامس، في وقت كان فيه الإسلام في قمة حضارته.
من الغريب أنه في ذات الوقت الذي يرى فيه القشتاليون الإسبان أنهم أسياد الحضارة، كانت أوروبا تنظر إليهم بأنهم همج أفسدتهم قرون السيطرة الإسلامية الطويلة إلى درجة لا تمحى، وقد رفض أحد علماء الدين الهولندي زيارة إسبانيا، رغم شهرة كتاباته بها، وقال ذلك العالم: ((أنا لا أحب إسبانيا، لأن المجتمع الإسباني مليء باليهود والزنادقة ويصف مارتن لوثر في كتابه «أحاديث المائدة» عام 1566م، إسبانيا بأنها بلدة اليهود الكافرين، والأندلسيين المعمدين، وحتى البابا بول الرابع وصف المجتمع الإسباني في عام 1555م بأنهم البذرة الضلالية لليهود والأندلسيين، وقد أرجأوا نزوعها الشاذ إلى العنف والغزو إلى التراث الأندلسي، وقد وصل بأحد كتاب فرنسا في أواخر القرن السادس عشر إلى وصف الإسباني فيليب الثاني، بأنه ثلث يهودي، وثلث أندلسي، وثلث ساراكينوس، وأرجأ البعض أن الطغيان والقتل الذي أصاب الهنود الحمر الأنديز من قبل الإسبان هو لاختلاطهم بالأندلسيين الوحشيين الغادرين، ووصف أحد الإيطاليين هيمنة الإسبان على بلاده، بأنها الهمجية الأندلسية في البر والبحر، على حد سواء، حتى وليم شكسبير، في مسرحيته قد أعطى السيد/ عطيلا الأندلسي سيفاً من إسبانيا ليقتل به ديدمونه، هكذا ألصق كل سوء بالمورسكيين ذوي الأصول الإسبانية وتعمق ذلك بفعل الإعلام وسحره. وأثناء حرب فيليب الثاني الكاثوليكي ملك إسبانيا مع أوروبا البروتستانتية كانت الدعاية البروتستانتية تصور إسبانيا بأنها بلد ملوث بالمورسكيين مسلمي الأصل، وأن هذا الدنس قد أسفر عن حب لسفك الدماء والتخلف، والبعد عن تعاليم المسيح، وكانت الكتب والمواعظ والمسارح تحاول ترسيخ ذلك المفهوم في عقول العامة، عبر العصور وحتى زماننا هذا ينساق معظمهم وراء الدعاية المضللة، ورأيناها جبلَّة أثناء الحروب، أو التسلط، أو احتلال الأراضي وتبرير الاحتلال.
ونشأ عن ذلك بغض للمورسكيين لدى الكاثوليك والبروتستانت، وألصق بالمورسكيين كل سوء، فعجل ذلك من اتخاذ قرار الطرد، لحقد دفين، وتزمت ديني، واستغلال الساسة لذلك الكره لطرد المورسكيين من أوطانهم حتى يتخلصون من سوء ما أصابهم من هذا الجنس الغريب كما يزعمون، والحقيقة وهو مناف للحقيقة والدين المسيحي والمصلحة الإسبانية.