د. عبدالحق عزوزي
انخفضت أسعار الأسهم في الأسواق المالية في أنحاء العالم بدرجة غير مسبوقة، وأغلقت مثلاً إيطاليا مناطق شاسعة من البلاد، بينما تجاهد السلطات من أجل احتواء انتشار فيروس كورونا المميت. وأصبح عشرات الملايين من الناس يعيشون في حجر صحي في أنحاء العالم، ومع ذلك فلا تزال هناك مخاوف من أن ينتشر الفيروس أكثر، وقد تؤدي الاضطرابات في العمل والأسواق إلى دخول عدد من اقتصادات العالم في فترة ركود. وسيطرت المخاوف على الأسواق العالمية، بسبب أكبر انخفاض تشهده الأسواق منذ الأزمة المالية في 2008 . فإلى حدود كتابة هاته الأسطر هبطت أسعار الأسهم أكثر من 5 في المئة في طوكيو، و7.3 في سيدني، مما أدى إلى فقدان مئات المليارات من الدولارات من قيمة الشركات، مع تضاعف الخسائر على مدى أسابيع.
وكل هذا يذكرنا بما مرت به الإنسانية من أزمات اقتصادية، بل إنه ومنذ أن تمكنت الرأسمالية من السلطة، بدت الأزمة حالة طبيعية. غير أن العالم عاش صدمة قوية واضطراباً كبيراً وتغيُّرات مهمة أدت إلى تغيُّر الميكانيزمات الاقتصادية والمالية الدولية؛ وأعني بذلك أزمة 2008، التي كانت أزمة اقتصادية، وهي ليست الأولى في التاريخ وإنما الأولى التي يمكن اعتبارها كونية. ويمكن تفسير هذه الأزمة الأولى في زمن العولمة بعجز المجتمع الأمريكي عن تقديم أجور لائقة للطبقات المتوسطة، مما دفع هذه الأخيرة إلى الاقتراض لتمويل شراء منازلها وبالتالي إلى الزيادة في قيمة الأصول وفي الإنتاج، ونمو الشركات المالية وتزايد «المطلعين» الذين ينشطون هذه الشركات دون أية مراقبة من الحكومات أو المؤسسات الدولية، وهكذا حدث الغنى دون أدنى خطر بفضل التوريق (CDO) وبفضل شبه التأمين (CDS)... وجدت العديد من الأسر الأمريكية الأكثر فقراً، والتي عرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ المالكون المثقلون بالديون في بيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفضت الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربوها «الانتحاريون» أنفسهم بمساكن مصادرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها إضافة إلى مشاكل السيولة، وانعدمت الثقة في عالم مالي واقتصادي لا يقبل غيابها، وأصبحت الأزمة كونية وبدأت الوقائع تطلعنا على حقائق لو حكيت قبل الأزمة لقيل عنها أنها من ضرب الخيال.
وقد نجح دونيرو في أحد أفلامه The Wizgard of Lies تصوير جزء من أكبر عملية نصب تاريخية في دولة ديمقراطية متقدمة تعج بالمراقبات المالية المتنوعة والقوانين الدقيقة، وأعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية. بطل عملية النصب هاته هو السيد برنارد مادوف الذي تم اعتقاله في 11 ديسمبر من عام 2008 عن طريق مكتب التحقيقات الفدرالي بناءً على بلاغ من ابنيه خوفاً من أن يتابعا هما بنفسيهما إذا قاما بتغطية الحقيقة بعد اكتشافها. وتعتبر عملية النصب تلك التي تدعى بسلسلة بونزي، عملية تم فيها النصب على ما يزيد عن 50 مليار دولار وجرت على عقود من الزمن، ولا أعرف في التاريخ البشري أكبر عملية نصب مثل هاته، حيث تمت على يد شخص واحد، وكتم احتيالاته حتى عن زوجته ناهيك عن ولديه الذين كانا يشتغلان عنده. وقد كان ممنوعاً على الولدين الوصول إلى الطابق 17 هذا الطابق الذي كانت تشتغل فيه شياطين الإنس الذين يزوِّرون ويسوِّلون ويملون لكبار أغنياء العالم درب الاغتناء السريع والآمن. وفي الفيلم نرى أناساً يضعون في حسابات برنارد مادوف كل ما يملكون وبملايين الدولارات ليجدوا أنفسهم ذات يوم بدون دولار واحد، ومن هؤلاء من انتحر ...
برنارد مادوف كان أستاذاً بسيطاً للسباحة قبل أن ينشئ صندوقاً للاستثمار بـ5000 دولار أمريكي. عرف هذا الرجل بذكائه وبعبقريته وبسرعة بديهته إلى أن ثبَّت رجليه في عالم المال، ووصل به ذكاؤه أن ترأس الناسداك (Nasdak) وهي بورصة القيم التكنولوجية وكان ذلك من سنة 1990 إلى سنة 1991. وبرنارد مادوف هو أيضاً من النخبة اليهودية النيويوركية الملهمين بالذكاء المالي أينما حلّوا وارتحلوا... وهو كان يأخذ من أموال المستثمرين الجدد ليعطي منها إلى المستثمرين القدامى، وبذلك كان يعطي للجميع انطباع النجاح الدائم والأكيد والسريع، والاستثنائي في عالم مالي يطبعه المجهول واللا يقين والغموض ... وبناءً على ذلك كان هذا المحتال يجذب باستمرار العديد من المستثمرين الجدد، وكان هؤلاء المساكين الجدد يجهلون أن هذا الرجل يقوم بتبذير الأصول التي يقومون بإيداعها عنده، وعندما نشبت أزمة 2008 حاول البعض سحب إيداعاتهم وممتلكاتهم ولكن هيهات هيهات... يكتشف المقرَّبون من برنارد مادوف الفضيحة، يتم التواصل مع السلطات، فيتم الاعتقال والمحاكمات المتتالية.