د. محمد عبدالله العوين
تهيمن على العالم حالة من الهلع بسبب الانتشار السريع لفيروس كورونا المستجد ضخمتها وسائل الإعلام بما تملكه من أدوات الرصد والتصوير والحوار عن المرض إلى أن أصبح فوبيا مرعبة لكثيرين في أنحاء العالم؛ فهل يستحق هذا الفيروس كل هذه المتابعة اليومية لتطورات انتشاره وما أوقعه من إصابات عابرة أو فتَّاكة؟!
الحق أن البون شاسع وكبير جداً بين حالتي 1918 و2020م؛ الأولى (الحمى أو الإنفلونزا الإسبانية) التي اجتاحت العالم مارس 1918م كما وصلت إلى مصر والجزيرة العربية والعراق أوائل شهر محرم 1337هـ تلك السنة المريرة التي عرفت بسنة الرحمة أو سنة الصخونة أو الطاعون كما كان يسميها أهل نجد وتصاعد فتك فيروس الحمى الإسبانية بأهلنا في الجزيرة ثلاثة أشهر؛ بدأ مطلع محرم وانتهي بنهاية ربيع الأول من تلك السنة.
عرف العالم جائحة إنفلونزا 1918م بالوافدة الإسبانيولية فيروس الإنفلونزا أ H1N1 مع أن إسبانيا لم يكن لها صلة بنشأة المرض؛ لكن لأن صحافة إسبانيا انشغلت بمتابعة الفيروس لما تمتعت به من حرية إعلامية حرمت منها صحافة أوروبا المهمومة بمتابعة الحرب الأولى والمحرَّم عليها -آنذاك- عدم نشر ما يمكن أن يوهن من عزيمة المحاربين، بينما لم تكن إسبانيا طرفاً في الحرب الأولى.
بدأت الحالات الأولى من الوباء في شهر مارس بولاية كنساس بأمريكا، ثم انتقل عن طريق المسافرين البحارة إلى فرنسا ثم إلى النمسا وألمانيا وبدأ في الانتشار السريع في أوروبا على جبهات وثكنات المقاتلين التي أصبحت مرتعاً خصباً لانتقال الوباء بينهم بحيث قضى لاحقاً على ما يقرب من 50- 100 مليون إنسان، ما يعادل 3-5 % من سكان العالم أو ضعف قتلى الحرب العالمية الأولى، وعرف بأنه أعظم هولوكست طبي في التاريخ.
لقد عانى أجدادنا من وطأة فتك تلك الحمى، وتحدث مؤرِّخون عن تلك الجائحة فوصفوا بيوتاً لم يبق فيها ساكن بسبب موت كل العائلة، ينامون أصحاء ولا يستيقظون، ولا يُعزى فيهم أحد لعدم وجود أحياء منهم، ويُصلى على مائة جنازة صلاة واحدة، هُجرت قرى، وأُهملت مزارع بلا زراع، ومواش في البراري بلا رعاة، ومتاجر أُقفلت بلا بائعين ولا مشترين، مات خلق كثير لا يُعلم عددهم في كل مدينة وقرية في نجد والحجاز والأحساء ودول الخليج والعراق.
في سنة الرحمة فقدت نجد أعياناً وأمراء، منهم على سبيل المثال الأمير تركي الأول بن الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل وزوجته الجوهرة بنت مساعد بن جلوي آل سعود.
أما الحالة الثانية كورونا المستجد 2020م فلا تذكر أبداً أمام جائحة الحمى الإسبانية؛ فالإسباني مفترس دمَّر جهاز المناعة فوراً، أما كورونا المستجد فيستطيع جهاز المناعة (الجيّد) مقاومته بإذن الله ثم بدعم من العناية الطبية المتقدِّمة في هذا العصر.
إن عدد من أصيبوا بكورونا المستجد إلى الآن فاق 120 ألفاً، ومَن فتك بهم تجاوز4 آلاف في 100 بلد، وهو رقم لا يمثِّل شيئاً أمام 50 - 100 مليون إنسان قتلتهم الإنفلونزا الإسبانية.