أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كانت أشيقر قبل دعوة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) رحمه الله تعالى هي الركيزة الوحيدة في المنطقة الوسطى لتلقي العلم من الآفاق، وفي بعث رجال العلم للدراسة في الآفاق أيضًا.. وكانوا منورين للمنطقة الوسطى بالفتوى، واتجه كثير منهم إلى بلدان نجد، ولهم ميزة في الاحتفاظ بالمخطوطات والوثائق.. وإن كان يعادلهم في ذلك منطقة الأحساء في عهد (آل أجود)، وأوائل عهد (آل عريعر)؛ فكانوا ذوي مساهمة في الالتقاء بعلماء تلك البلدان، ووجدت لهم الكتب، والفتاوى، والتعليقات في الأنساب والفقه، مع نسخ بعض المخطوطات.. ثم عمرت سوق العلم في الدرعية بعد قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى؛ ورأيت منه خطابًا يستنهضهم للحمية للدعوة، وعدم الانقياد لأي قوة من قوى التجزئة؛ فانتفضوا انتقاضة الأسد، وتحمسوا للدعوة، وكان منهم القادة العظماء في مغازي الدولة السعودية، وفي فتح (عمان)، وفي حفر الخندق أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم عند تجمع الأحزاب؛ وذلك في حرب شقراء ضد الباشا، وهكذا حصنوا بلادهم؛ حتى رأيت مخابيط المدفع قطعًا من الحديد تزن الواحدة عشرين كيلو على الأقل.. ثم التحموا بأئمة الدعوة لا على أساس أنهم طلبة علم؛ بل على أساس أنهم علماء ذوي اختصاص كالشيخ (إبراهيم العيسى) شارح النونية، وابنه (أحمد)، وما جعله الله على يده من الإصلاحات الدينية في الحجاز، وكان (آل أبو بطين) كلهم علماء ذوو ورع.. ولما زار أحد الرحالة المنطقة الوسطى، وطاف بها: حكم بأن شقراء تضارع الدرعية ثم الرياض في العلم؛ بل تكاد تتفوق على الرياض..وللأسف فإن أبناء هذه المدينة الجهورية لم يحتفظوا بمخطوطاتهم، وبثوها في الآفاق.. ولا آمن أن (إبراهيم باشا) حمل بعض مخطوطاتهم في غزوته الآثمة كما فعل مع الشيخ (سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب آل الشيخ [1200ــ 1233هـ] حسب ما ذكر (سادلير) ، وقد ذكر أنه شكل لكتب أئمة الدعوة لجنة من قبل (إبراهيم باشا) في المدينة المنورة؛ فبعضها أحرق، وبعضها أودع في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة وهو القليل، وبعضها أرسل إلى القاهرة والآستانة.. وجاء فضيلة الشيخ (ابن جارد) رحمه الله تعالى قاضيًا في شقراء؛ فتعاون معه الجماعة في تأسيس نواة المكتبة العامة؛ فتيسر لهم بعض المخطوطات.. وقيض الله في العصر الحديث الأستاذ (يوسف المهنا) وزملاءه؛ فنبشوا فوجدوا بعض الأوراق الخطية، والمؤلفات الخطي، وأكثرها من التاريخ.. ولدى أهل شقراء ما لا يحصيه إلا الله من الوثائق؛ لأنهم ذوو عمق سياسي مع دولتهم، وعمق تجاري مع العالم، والرسائل لا حد لها في هذين الجانبين، وهذه الرسائل هي الوثائق بمفهوم العصر الحديث، ولكن القوم شحيحون بما في أيديهم من الوثائق.. وفي شقراء علماء أجلاء بارزون، ولكن من طبيعة جماعتنا إنكار النفس، والزهد في المناصب، وقد أرادهم الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى لذلك في وقت مبكر؛ فمن هؤلاء الشيخ (ناصر بن سعود آل عيسى) ويلقب بـ(شويمي)، وكان آية في المعارف الشرعية والتاريخية والكيميائية، ولا يكاد يعرفه أحد خارج شقراء.. وجمع الشيخ (صالح ابن عيسى) رحمه الله تعالى مخطوطات عديدة من تأليفه ومن جمعه من شقراء والوشم وغيرها، ولكن كتبه نـهبت في عنيزة؛ فكانت خبرا لا أثرا، ولم يبق إلا ما عثر عليه في أشيقر أو في شقراء من تركة الشيخين (إدريس) [هو إدريس بن إدريس بن سليمان بن عبدالله بن حمد بن غيهب، و(ابن حنطي)]؛ وهو أستاذي وأستاذ أكثر طلبة العلم ما بين سبع سنين إلى خمسة عشر عامًا رحمهما الله تعالى؛ ثم كانوا ذوي السبق والتفوق في الدراسة المنهجية، ثم قتلهم العمل الأكاديمي، وبعضهم لم يبال بالمتابعة العلمية لقلق العصر وأمراضه، وأهلها المعتد بهم هم الذين تجدهم في المنتديات الراقية من البيوت، أو متحلقين في سوق الجلب، أو المتقدمين قبيل الأذان إلى المسجد.. وفيهم ذوو كدح وكد وحرفة شققت راحاتهم وبطون أرجلهم.. يشع النور من وجوههم الملتحية العريضة وإن أنهكتها الحرفة، وتعلو ثفنات السجود حواجب أعينهم.. يستسقى بهم المطر، وتأكل الطير من أيديهم؛ لسلامة قلوبهم، والنكتة المليحة سجيةٌ فيهم.
قال أبو عبدالرحمن: إن مدينتنا الكبيرة ماضيًا، الصغيرة حاضرًا بعرف التنمية العمرانية باتت تجد اهتمامًا وحرصًا من أبنائها بالبذل المالي في إعادة المجد التاريخي العلمي لشقرائنا من جهة الحضور العلمي المتصل في هذه المدينة، وشد طلبة العلم والعامة من ناشئتنا بالحضور بإلزام أدبي للنهل من المعارف في كل مناسبة ثقافية منبرية متواصلة في شقراء، وخير شاهد على ذلك ما حظيت به المنازل والأسواق والمساجد القديمة والآبار وأغلب المعالم الأثرية من إعادة ترميم وإصلاح بتكاتف وتلاحم أبناء شقراء ورجالاتها، ومن هذا الاهتمام ما نراه اليوم من انتهاء أعمال ترميم أول مدرسة نظامية في شقراء، وتعد من أوائل المدارس الحكومية في نجد، وجزء من تاريخ شقراء العلمي.. وتم تأسيسها بأمر الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله تعالى، وقد تكفلت (شركة محمد وعبدالرحمن السعد البواردي) بتكلفة الترميم وإعادة البناء مشكورين جزاهم الله خيرًا عن شقراء وأهلها، والشكر موصول إلى كل من أسهم في ترميم هذا الصرح العلمي الذي خرج الرعيل الأول من المشايخ والأساتذة والأدباء والوجهاء والمثقفين والمستشارين والأكاديمييين، وتبوأوا مع أقرانهم في عموم مناطق المملكة، المناصب القيادية والعلمية الرفيعة في قطاعات الدولة المختلفة؛ فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.