وما أحدٌ يُخَلّدُ في البرايا
بل الدّنيا تؤوُلُ إلى زوالِ
يَسيرُ ويجول الكثيرِ من بني البشر على ظهر الأرض تَحدوهم الآمال في تحقيق مآربهم، وما يحلو لهم من مُتع الحياة، ومتطلباتها، حسب ميول كل فرد، مثل امتلاك المسكن المريح، أو احتضان الكتب الآهلة بالحكم والآداب، والحصول على المراكب جيدة الصنعِ ليسهل التنقل عليها من مكان لآخر.. للتواصل مع الأقارب والأحبة، ولقضاء الحوائج المتكررة:
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجات من عاش لا تنقضي
وغير ذلك من المستلزمات التي لا غنى عنها.. وقد تنزعه الأقدار فلا يدوم أنسه بها، كحال حبيبنا الأخ الأديب الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن الربيعة الذي فاجأه هادم اللذات على عجل مساء يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء 9-7-1441هـ بعد أدائه صلاة المغرب في المسجد، حيث صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها؛ وهو في طريقه إلى منزله.., فهنيئاً لك (أبا محمد) خاتمة حسنة وذكراً خالداً.. وهذا مما خفف مصابهم فيه خاتمته الحسنة ورضاهم بقضاء الله وقدره قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، ويحسن بي ذكر قول الشاعر منقذ الهلالي حاثاً على الصبر عند وقوع المصائب:
ولخير حضك في المصيبة أن
يلقاك عند نزولها الصبرُ
ولقد أُديت صلاة الميت عليه بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 9-7-1441هـ في جامع الجوهرة البابطين شمال الرياض، وقد اكتظ بجموع غفيرة من زملائه وتلامذته ومحبيه، داعين المولى لهُ، ولمن أديت الصلاة عليهم معه بالرحمة وطيب الإقامة في أجداثهم إلى قيام جميع الخلائق ليوم الحساب، ثم حُمل جثمانه الطاهر إلى مهوى رأسه بلد آبائه وأجداده (حريملاء) فأُضجع في مقبرة (صفيه) ملتقى الراحلين، وقد بدأ الحزن العميق على محيا أبنائه ومحبيه.. -تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته-، والحقيقة أن رحيل مثله محزن جداً لما يتمتع به من حِنكة وتواضع جمً، وعلوم غزيرة ارتشفها من بحور أمهات الكتب النفيسة، ومن إنصاته لسماع ما تفوه به شيوخه الأجلاء، مما قوى ملكة الفيض منها.. والقدرة على استنباط ما قد يخفى على السامع.. فهو دائرة معارف رحبة الجوانب.. ولله دَرّ القائل:
تَفرّد في علم وفقه وفطنة
تقاصر عنها باحث ومُذاكر
وكان مولده في حريملاء عام 1361هـ، وعاش طفولته بين أهله وإخوته، ولداته.. يقضون سحابة يومهم في لهوٍ ومرحً، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم لدى المقرئ (المطوع) الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان حتى أكمل القرآن الكريم قراءةً وحفظاً لعدد من أجزائه، ثم التحق في أول مدرسة ابتدائية بحريملاء عام 1369هـ، وكان مديرها آنذاك الأستاذ الفاضل محمد مختار -رحمه الله- أحد أبناء المنطقة الجنوبية، وكانت ملامح الحيوية والذكاء تلوح على محياه، وبعد حصوله على شهادة السنة الرابعة الابتدائية انتقل مع أسرته إلى الرياض، حيث كان والده -رحمه الله- يُعدّ من الأثرياء في ذاك الزمن.. فأحب الإقامة هناك لمزاولة بعض أعماله التجارية، والعقارية مُبكراً.. وكان (أبو محمد) عالي الهِمّة، وكأنّ الشاعر يُخاطبه بهذا البيت:
إذا كنت ترجو كبار الأمور
فأعدد لها همّة أكبرا
فاستمر في مواصلة الدراسات العلمية والأدبية بكل جدٍ وتفوق إلى أن حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر مع مرتبة الشرف الأولى عام 1396هـ، والجامعية: من كلية الشريعة بالرياض بتقدير (ممتاز) عام 84 - 1385هـ، كما كان عضواً فاعلاً في مجلس الشورى لثلاث دورات متتالية، وعضواً في المجلس الأعلى للقضاء، وقد زاول مهنة التدريس والمحاضرات في مراحل الماجستير والدكتوراه.. والأشراف على رسائل علمية في مراحل الماجستير في الفقه وأصوله.. بكلية الشريعة بالرياض، كذلك مناقشة رسائل علمية في مرحلة الدكتوراه في كلية الشريعة بالرياض.., وغيرها في مواقع عدة، فالمجال لا يتسع لسرد جميع أعماله المباركة المشرفة، فهو كالبدر من حيث التفت رأيته.. -رحمه الله- وقد وهبه المولى طول باع في كثير من التخصصات.. فمجلسه بالرياض بمنزلة الصوالين الأدبية والعلمية.. يؤمه الكثير من أسرته، ومن العلماء والأدباء ومعارفه، كما ان استراحته في محافظة حريملاء ملتقى لزملائه وأحبته.. وكان يدعونا لتناول طعام الغداء فنسعد بالحديث مع ضيوفه، وبأصدقائه وزملائه المقربين إلى قلبه.. أذكر منهم على سبيل المثال: د. محمد بن عبدالرحمن الربيع (أبو هشام)، والدكتور محمد بن سعد السالم، والدكتور فهد بن عبدالله السماري (أبو عبدالله) وغيرهم من الإخوة الأكارم، وستظل تلك الجلسات والساعات معهم ذكرى جميلة خالدة في طوايا النفس مدى الأيام، وقد خلف ذرية صالحة:
خلفت في الدنيا بياناً خالدًا
وتركت أجيالاً من الأبناءِ
وغداً سيذكرك الزمانُ، ولم يَزل
للدهر إنصاف وحسن جزاء
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ومغفرته وألهم أبناءه وبناته وعقيلته (أم محمد) وجميع أسرته ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء