د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
كانت ليلةً رائقةً مع جمعٍ مضيءٍ ميزتُه تجايلُهم في أعمار متقاربةٍ وخلفية معرفيةٍ متشابهةٍ مع حميميةٍ جميلة تجعل انسياب الحوار بينهم تلقائيًا لا يخالطُه تحسسٌ أو توجس، والأجمل اختلافُهم الثقافي بين محافظةٍ وانفتاحٍ يمسُّ بذورَ اقتناعاتهم لا جذور توجهاتهم، وإذ دعَوا صاحبكم إلى جلسةٍ معهم فكان لقاءَه الأولَ بهم فقد آثر الصمت وركَّز على المتابعة.
** كان فيهم إمامُ المسجد وخطيبُ الجامع والمهتم بالفن الغنائي والسينمائي والمسرحي ومَن بينهم، وهو مشهدٌ ليس متاحًا كثيرًا؛ فيلتقون بصورةٍ دوريةٍ تكادُ تكون شهرية، ولا يعيبُ أحدٌ على أحدٍ حين ينتهي الحوار الصاخب فتسود التعليقاتُ والابتسامات.
** استعاد بمراقبتهم وقت صباه المبكر حين كان مطلوبًا منه صبُّ القهوة والشاي لضيوف والده رحمه الله في جلستهم الضحوية خلال فترة الصيف، ومع أن مساحة منزلهم لم تكن صغيرةً بالمقاييس المقارِنة فقد كان ضجيجهم لافتًا النائيَ قبل الداني، ولأنه صبيٌ ملزمٌ بتوفير أسباب خدمتهم والبقاء طيلة الوقت معهم فقد فهم ما يدور وتفهم ما يُدار.
** مثَّلوا التيارات الفكريةَ المتصادمة حينها، ولم يحلْ الحوارُ الصاخبُ عن تلاقيهم كلَّ يوم، وخروجهم إلى نزهاتٍ برية كلَّ أسبوع، وامتداد صفائهم حتى بعد اكتهالهم ومشيبهم ورحيل بعضهم؛ فلم تتوارَ المحبةُ بينهم، وتجسدت في أنموذجهم نماذجُ متعددةٌ؛ إذ ذاك إيقاعُ زمنهم القادرِ على جمع المختلف ولحمة المؤتلف
** جاء الدرسُ الأولُ في أن افتراق المظاهر لا يخذلُ تعانقَ المشاعر، فليولّ أيٌ وجهتَه من غير أن يفقد علائقه، وهو ما نحتاج إليه اليوم فلتسمعْ شيخَك مثلما يستمتع بأغنيته، وليقرأْ تراثه كما تحلق مع مسلسلك، وليقتنعْ بحلاله كما تتجنب حرامك، وليرَ الحياة بمنظاره كما تراه بمنظارك دون ادعاء الحرية الذهنية المطلقة أو المنفلتة؛ فصاحبكم لا يقبلُ المشككين في وجود الله أو تعظيم نبيه أو مصادمي الثوابت الإجماعية، وضمته مجموعاتٌ «رقمية» مع بعض هؤلاء فاعتذر وغادرهم.
** أما الدرس الثاني فهو أن الذهن لا ينغلق بإرادته، بل بإدارته، وهو ما يعني دورَ البيئة التأثيريَّ في انفتاحه وانقفاله، والتأكيد على أن الوعيَ الذاتيَّ مطلبٌ غيرُ يسير بالرغم من تزكيته ليكون العاملَ الأميزَ في تخليق التغيير الداخلي وبروز انعكاساته الخارجية، وقد يحتاجُ المعنيُّ بالحراك الثقافي النوعيّ ألا يقف عند الآماق بل يُبحر في الأعماق، ومُوق العين نظرة لا فكرة تعطي انطباعًا ولا تنفذ إلى طبع، وسيتأتَّى هذا حين لا يكتفي المتابع بقراءة العناوين التي تصوغُها أقلامٌ وأفهامٌ وأعلامٌ وإعلام بل بمقاربة المشهد من داخله بمظاهره ومحاوره، ورصد التحولات الحقيقية المُرهصة للتغيير الجذري في البناء المجتمعي لا المظاهر «القِشرية» القابلة للتكوّن بقرارٍ أو إقرار.
** في الدرس الأول تفصيل وفي الثاني تأصيل، وما أوفى التقاءَهما لتصحيح المفاهيم التي ران عليها جمودٌ وجحودٌ وحدودٌ وقيود.
** التحولاتُ إشارات.