محمد بن إبراهيم الدواس
القراءة من متع الحياة، ومن متع القراءة، القراءة في التاريخ، ففهم التاريخ والتغيرات يجعلك تفهم الحاضر والصعوبات التي اجتازها من سبقنا لنصل لما وصلنا إليه، فالبناء مهمة بشرية خصنا بها الله حين اصطفانا لعمارة الأرض.
فمن بطون الكتب يبعث التاريخ من جديد، فالكتاب حياة خالدة، وعلم متوارث، وعظه لمن أراد أن يتعظ، فالتاريخ الإنساني يتكرر لأننا لا نستوعب ما حدث، ولأننا نغض البصر أحيانًا عن الاختلافات الجوهرية حتى تصبح محورا تتفرق عليه الأمة.
من القراءة في سير الرجال العظماء تستطيع أن تفهم نقطة تميز من صنعوا الدول وجمعوا الشعوب، أنهم اهتموا أول شيء بالتمسك بالجماعة ونبذ التفرقة وتفهموا الاختلاف، واتفقوا على الأساسيات التي يجتمع عليها البشر، وهذا لم يمنع التشدد من أن يكبد الأمة خسائر فادحة، يقول الأمير دكتور فيصل بن مشعل: (على الرغم من تصالح الأئمة، لم يفرط كثير من المتشددين على مدار التاريخ في حظوظهم في غرس بذور العداء للمخالف وعدم تقبل الخلاف، وتفهم أسبابه، وفي النهاية قال التشدد كلمته وكبد الأمة كثيراً من الخسائر) ومن يقرأ في سيرة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- سيجد في شخصيته وتاريخه الكثير من التفاصيل التي تستحق أن نتوقف عندها، فالكتب التي كتبت عنه تكاد تملأ المكتبات، ومن العجيب أن لكل كتاب موضوعه المختلف، وهذا يبين لك شخصية هذا الملك النادر في زمانه، ومن آخر الكتب كتاب الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز -أمير منطقة القصيم- الذي خصصه لدراسة موضوع قل من تطرق له وهو عن (الملك عبدالعزيز وتوحيد إمامة المصلين في الحرمين الشريفين)..
بين سطور هذا البحث تستطيع أن تتقرب من شخصية المؤلف سمو الأمير دكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز وثقافته وسعة اطلاعه وتفهمه الواسع للتغيرات الاجتماعية ودور الحاكم في المجتمع وهذا نلامسه شخصياً ومباشرة من سمو الأمير في تعاملنا معه وتوجيهاته في إمارته لمنطقة القصيم، ونلامسه في ثنايا حديثه في مجالسه..
جاءت فكرة الكتاب لسمو الأمير من مجلس من مجالس الأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- فهو كان كثيرا ما يردد في مجالسه عن هم الملك عبدالعزيز حين رأى تفرق الأمة في الحرم المكي وعزمه على توحيد الإمامة. وهذا لعمري أنه مجلس خير ذكر فيه أمر خير وأخذه وبحثه رجل خير.
وموضوع الكتاب: (الملك عبدالعزيز وتوحيد إمامة المصلين في الحرمين الشريفين) موضوع غريب في بابه، ولا نتخيله في هذا العصر نهائياً وحين نقرأ عنه نتخيل أنه من وحي الخيال لغرابته، فالأمة الإسلامية في وقت من الأوقات وفي أطهر بقاع الأرض، في قبلة المسلمين انقسمت صلاة الفرض لسنوات طوال لأربع جماعات وذكر ابن جبير أنها خمس جماعات لإضافته للزيدية، يقول ابن جبير حين زار الحرم عام 578هـ: (وللحرم أربعة أئمة سنية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية.. فأوّل الأئمة السنية الشافعي، وإنما قدّمنا ذكره لأنه المقدّم من الإمام العبّاسي، وهو أول من يصلي، وصلاته خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم، إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها: يبدأ مؤذن الشافعيّ بالإقامة، ثم يقيم مؤذّنو سائر الأئمة. وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة. فربما ركع المالكيّ بركوع الشافعي أو الحنفيّ، أو سلّم أحدهم بغير سلام إمامه. فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنه مخافة السهو، ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس).
وهذا محل فرقة عجيب، في أهم ركن من أركان الإسلام، وفي عماد الدين، فما بالك بالأشياء الأخرى، حتى أن بعض الأئمة حرم أن تصلي خلف إمام من مذهب آخر!
ظلت هذه المقامات سنوات طوال، ومن الفتنة على المسلمين أنها انتقلت للمسجد النبوي، وللمساجد الكبرى في العالم الإسلامي مثل الأزهر، والجامع الأموي في دمشق، فانتشرت هذه البدعة، حتى قل من ينكرها.
هذا البحث الممتع الذي كتبه سمو الأمير دكتور فيصل قسمه لثلاثة فصول جاء الفصل الأول تحت عنوان: (اختلاف الأئمة رحمة) والفصل الثاني: (الملك عبدالعزيز موحد صفوف الأمة في الحرمين الشريفين) والفصل الثالث بعنوان: (الأمة الإسلامية تشيد بموحد جماعتها)، محاولاً تغطية البحث من جميع الجوانب، واستهلاله هذا البحث من مسألة الخلاف بين العلماء لهي بداية موفقة لطرح مثل هذا الموضوع، فالأدلة التي تؤكد أن الاختلاف بين العلماء وارد ولا ريب فيه ثابتة، ويقول سمو الأمير: (إلا أن الإقرار بمشروعية الخلاف بين العلماء لم يمنع بعض المتشددين أن يعمدوا إلى فرض وجهة نظر واحدة ورأي واحد ولو بقوة السيف، قديماً وحديثاً).
وقبل أن يبدأ سمو الأمير بالفصل الثاني عرج على أسباب اختلاف العلماء كما ذكرها الدكتور محمد أبوالفتح البيانوني وهي باختصار شديد: (الاختلاف في ثبوت النص وعدم ثبوته، والاختلاف في فهم النص، والاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة، والاختلاف في القواعد الأصولية وبعض مصادر الاستنباط).
القارئ للتاريخ يعرف كيف كان حال الدول الإسلامية من تفرق مذهبي واجتماعي وسياسي، وكذلك حال الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبدالعزيز لها، فلقد كانت الحال لا تسر عدو فما بالك بصديق ومحب، فالأئمة تفرقت في صلاتها، فتقام صلاة الفرض الواحد على أربع جماعات، فتخيل أن تدخل الحرم المكي في هذا الوقت وتجد للفرض الواحد أكثر من جماعة! فهل هناك أعظم من هذا التفرق؟
ففي الفصل الثاني الذي جاء بعنوان: (الملك عبدالعزيز موحد صفوف الأمة في الحرمين الشريفين) ذكر الدكتور فيصل فيه أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أنه قبل توحيد المملكة بست سنوات أمر بتوحيد جماعة المصلين في الحرم المكي خلف إمام واحد وإلغاء المقامات الأربعة ومنع تعدد الأئمة للفرض الواحد. وهذه الخطوة تبين أن الملك عبدالعزيز آمن إيمانا تاما بأن توحيد المملكة يأتي بعد توحيد الصلاة خلف إمام واحد، فأمة تقف خلف أكثر من إمام وتختلف بصلاتها كيف تجتمع؟
يقول الدكتور حسن سفر: (إن من أوائل ما فطن له الملك المؤسس بعد مبايعته ملكاً على الحجاز كان ضرورة توحيد المذهب الفقهي للبلاد، كي يزيد في لحمة المواطنين، وتوحيد كلمتهم، فوجه العلماء بسرعة الشروع في عمل مجلة للأحكام العدلية لتكون مسطرة الأحكام في محكمة مكة المكرمة في ذلك الوقت، فاستجاب الشيخ أحمد القارئ وأنجز «مجلة الأحكام الشرعية» فكان ذلك مدخلاً لتوحيد الناس لاحقاً في جماعة واحدة للصلاة في الحرم خلف إمام واحد بدلاً من تعدد الأئمة في الفرض الواحد وتفرق الناس بين المقامات).
كانت هذه المقامات منصوبة لعدة قرون، وانتشرت هذه البدعة حتى صعب انتشالها إلا من شخص منحه الله القوة لذلك، ولم يجمع المؤرخون بشكل قاطع على السنة التي ظهرت فيها هذه المقامات لأول مرة، لكن الأمير دكتور فيصل ذكر ترجيح الدكتور صالح معتوق في كتابة «علم الحديث في مكة المكرمة» أن بداية حدوث هذه المقامات كانت بين سنتي 442هـ/ 1050م، و497هـ/ 1103م لأن ناصر خسرو عندما حج سنة 442هـ/ 1050م لم يذكر هذه المقامات، وذكر الفاسي في شفاء الغرام أن مقامات الحنفية والمالكية والزيدية كانت موجودة في سنة 497هـ/ 1103م، وقد أزيل مقام الزيدية في عام 726هـ/ 1325م.
حين بويع الملك عبدالعزيز ملكاً للحجاز وجه بعقد اجتماع للعلماء لبحث أصل المقامات وحكم انقسام جماعاتها لجماعات متفرقة، ولقد اجتمع فريقين من العلماء عام 1345هـ/ 1926م يمثل أحدهما علماء الحجاز ويمثل الآخر علماء نجد، واتفق الجميع بعد التباحث على أن تكون صلاة الجماعة التي تقام في المسجد جماعة واحدة أياً كان مذهبه من المذاهب الأربعة التي لم تخرج عن كتاب الله وسنة رسوله، وانتخبوا من كل مذهب ثلاثة أئمة ورفع الأمر إلى الملك فأصدر موافقته على هذا الترتيب.
ما أن توحدت جماعة الحرم خلف إمام واحد حتى انتقل الأمر إلى باقي مساجد العالم الإسلامي، فبعد قرون طويلة اختفت ظاهرة انقسام جماعة المسجد من العالم الإسلامي إلى الأبد -إن شاء الله- وهذا أنه أمر خير أختصه الله بالملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وكما يقول الخطاب عمر: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله».
ختم سمو الأمير دكتور فيصل الفصل الثاني بذكر الانقسامات الفقهية حول قضية المحاريب الأربعة بين المجيزين وغير المجيزين، وأوضح الحرج والعنت الذي كان يلقاه المسلمين في التعبد آنذاك، وكيف أن المؤسس رد الحرمين إلى روحانيتهما بهذا العمل الجليل الذي جمع قلوب الأمة قبل صفوفها.
فمن منة الله علينا أن نشهد في المملكة العربية السعودية احترام عالٍ للمذاهب الأربعة، فلا تعصب لمذهب دون آخر، وإذا أفتى المفتي فلا يتقيد بمذهب معين من مذاهب أهل السنة وإنما يختار ما يعتقد أنه أرجح دليلاً، وفي القضاء لا يلتزم القاضي بمذهب معين، فإذا قضى بما يوافق مذهب أحد الأئمة الأربعة فلا يمكن أن ينقض حكمه بسبب اختياره ذلك المذهب.
ولما للأدب والأدباء والشعر والشعراء من مكانة اجتماعية في أوطاننا العربية خصص سمو الأمير دكتور فيصل الفصل الثالث والأخير من بحثه المبارك لأقوال الأدباء والشعراء في المؤسس وجاء بعنوان: (الأمة الإسلامية تشيد بموحد جماعتها) ذكر فيه سمو الأمير جزءا من خطاب كتبه الشيخ حسين باسلامة ذكر فيه مناقب المؤسس وأفعاله المشهودة على أرض الواقع من عمارة وتأسيس خصها المؤسس للحرم المكي الشريف، وهي من أجلَ الخطب وأجملها ولم أعرفها إلا من كتاب سمو الأمير. وأورد سمو الأمير دكتور فيصل قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي المعروفة التي مطلعها (ضج الحجاز وضج البيت والحرم).
انتقل بعدها إلى صاحب العبقريات المفكر والأديب المصري عباس محمود العقاد الذي تخصص في دراسة سير العظماء في التاريخ الإسلامي وامتلأت المكتبات بكتبه الفكرية، وما مرافقته للمؤسس وتخصيصه قصائد وكتاب عنه إلا دليلاً على انبهاره بهذه الشخصية التي قد يراها العقاد كأنها حلم من أحلام التاريخ الإسلامي العظيم، فلقد كتب العقاد عن المؤسس كتاب بعنوان: (ذكرياتي مع عاهل الجزيرة العربية) وقد خص المؤسس كذلك بقصيدتين شعريتين.
واختتم الكتاب بعدد من القصائد في المؤسس غفر الله له.
جاء الكتاب في 102 صفحة.. يغلب على طابعه المتعة. والقراءة في التاريخ ممتعة. ويأخذك الكتاب لأبعاد نفسية وتاريخية حتى يخيل لك أن عشت تلك السنوات وحدتها واختلاف الناس فيها وأنت من شهدت بفضل من الله هذا الخير والاجتماع على الكلمة والأمن والأمان.