عبده الأسمري
لدي أسئلة أضعها أمام كل من زار الحرم المكي الشريف.. ما هو شعورك وأنت تدلف بقدميك إلى هذه البقعة الطاهرة؟ وما مشاعرك وأنت ترى منظر الكعبة المشرفة.؟ وما هي عاطفتك نحو هذا الموقف العظيم؟
إنه الشعور الفريد الذي يختصر انعكاس «الضياء» في أعماق الروح.. ويملأ النفس بالسكينة ويشبع الفؤاد بالطمأنينة ويغمر الفكر بالروحانية..
شاهدنا الإجراءات الاحترازية الموفقة التي وجهت بها رئاسة الحرمين الشريفين والقاضية بإخلاء صحن الطواف كإجراء احترازي وسعياً لإخضاع المنطقة المحيطة بالكعبة المشرفة للتعقيم المستمر لمكافحة ومنع تفشي «فيروس» كورونا.
تحولت صورة «الصحن» إلى حدث عالمي وحديث إنساني حول الصمت إلى «ضجيج» وبدل «الفراغ» إلى «امتلاء».. شعرت وغيري بأن قلوبنا تطوف بديلا عن تلك الأجساد.. ارتفعت درجات «الاشتياق» للمنظر الأجمل وتعالت معاني «الشوق للمشهد الأكمل الذي صورته أرواحنا في قلب «الوفاء» وبلورته أنفسنا في قالب» الدعاء»..
الحرم المكي.. أطهر بقاع الأرض وأنقى رقاع المعمورة يسكننا كخلية في أجسادنا تعيش بينها شرايينا وأوردتنا.. فهو البيت العتيق الذي يملأ فراغات «نقصنا» ويكمل «نواقص» فراغنا.. وهو بيت الله الحرام الذي ترتكز فيه نقطة الكرة الأرضية ويوازيه «البيت المعمور» في السماء وهو منبع الالتجاء ونبع الرجاء وهو نقطة الالتقاء وموطن النقاء الذي يطهرنا ويغسلنا من «أدران» الحياة ومن «رواسب» الدنيا.
في هذا الحرم تخرج للإنسانية جمعاء مناهج في علم النفس الإسلامي ودروس في سيكولوجية الشريعة وعبر في السلوك البشري. تحت مظلة «البيت العتيق» ففيه يتباهى المسلم بالنسك ويفتخر المؤمن بالمسلك وفي آفاقه تسكب العبرات بالخشوع وتعلو الاعتبارات بالخضوع وفي جنباته يهزم «الهم» ويندحر «الغم» وفي «كنفه» يعلو «الالتزام» ويسمو «المقام» وفي جوانبه ترتفع «الهمم» وتتعالى «القيم» وأمام كعبته الشريفة تقضى الحاجات وتزال العوائق وتبدد المصائب وفي صحنه تشدو «الأنفس» بالابتهال وتلهج الأفئدة بالامتثال.
الحرم المكي أكاديمية مثلى لتدريس «الأخلاق» وتوظيف «المكارم» ففيه تتعافي الأرواح من «شوائب» المصالح الدنيوية وتتهادى الأنفس إلى «أهداف» المطامح الأخروية.
في الحرم المكي «مناهج» فاخرة للإنسانية فالكل هناك تحت لواء واحد وفي خطة محكمة رغم اختلاف اللهجات وتباين الشعوب وتفاوت الثقافات إلا أن وحدة الهدف وتوحد المعنى يرتب الصفوف وينظم الرؤى في مشاهد ناطقة بالتقى ومستنطقة بالتقوى.
الحرم المكي.. الصرح الديني الأول على وجه الأرض والمقصد الروحاني الأمثل في هذا الكون.. يتشرب فيه المسلمون الارتباط الحقيقي بين الأنفس والأماكن.
النظر إلى بيت الله الحرام والكعبة المشرفة بمجرد النظرة سواء كانت واقعا لمن يسر الله له هذا النعيم أو من خلال متابعته من وراء الشاشة الفضية وتخصيص وقت لذلك في اليوم «علاج» ينظف العين ويطهر القلب ويبهج النفس ويريح الروح ويسهم في رفع مستوى المناعة النفسية ويرفع الحالة المعنوية وينمي ملكات «التفكر والتدبر» ويهذب المعاني السلوكية.. ومن وصل إلى ذلك المكان فقد «أوتي خيرا عظيماً» فليوقف عقارب «الزمن» ويستوقف اتجاهات السير في كل شبر من هذا الموقع الطاهر لأنها وقفات للفلاح ستظل عامرة بالنعم في الحياة وغامرة بالفضل بعد الممات.
علينا أن نغمر أنفسنا ونعطر أرواحنا ونبهج حواسنا بفضل هذا البيت ونبل هذا المقر وطهر هذا المكان وشرف هذا الموقع.. فحبنا له «فريضة» وطوافنا به «منسك» وسعينا فيه «واجب» فما أجمل هذا الاعتزاز الديني الذي يتواءم مع الإعجاز الرباني وصولا إلى «الإنجاز» الإسلامي في محافل الشريعة في «حمى» الحرم المكي الشريف.
الحب والتعلق والشوق إلى «بيت الله العتيق» أجمل ارتباط بين الإنسان والمكان لا يوازيه «شعور» في هذا «المشعر». ولا يضاهيه «استيفاء» من هذا الاحتفاء.
الحرم المكي «جوهرة» الضياء الذي تسطع من أعماق «القدر» إلى آفاق «التقدير» وهو «لؤلؤة» الانتماء التي تشع من أصول «الدين» إلى فصول «اليقين».