اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
الفكر هو النور الساطع الذي يضيء للأمة طريقها عبر الحقب الزمنية التي تتعاقب على أجيالها، مجسداً حكمتها العقلية المستندة إلى مفاهيمها الأصيلة وقيمها النبيلة، ومؤكداً قوتها المعنوية المتوازنة التي على ضوئها تتوافر لها القوى المادية الكفيلة بتحقيق أهدافها، حيث إن الفكر هو الذي تستطيع بفضله الأمة تذليل ما يعترضها من صعوبات لضمان استمرار مسيرتها في الحياة، متخذة من تأصيل فكرها وتفعيل حاضرها جسراً تعبر عليه نحو المستقبل، وذلك عن طريق استخدام هذا الجسر الفكري بمثابة رابط يربط بين الماضي والحاضر من جهة، وبين الحاضر والمستقبل من جهة أخرى، مما يقف شاهداً على إن علو الهمم وبلوغ القمم بالنسبة للأمة يقاس بفكرها الذي يصنع عظمتها بسبب ما ينتج عن هذا الفكر من الحكمة والفلسفة المسؤولة، وقد قال نابليون: ليس في العالم إلا قوتان السيف والفكر، ومع الزمن ينتصر الفكر على السيف.
وبقدر ما يكون الفكر ناضجاً بقدر ما يقود صاحبه إلى الهدى، وينأى به عن الردى، إذ إن الإنسان الذي يفكر بعقل متزن وحكمة مستقرة، يستطيع المحافظة على اتزانه الشخصي واستقراره النفسي، متسعاً فكره لكل فكر، الأمر الذي يجعل الحياة تستقيم له بفضل ضبط سلوكه، ومعرفة الآخرين حق المعرفة، والحكم على الأمور بصوابية، بشكل يفسح له المجال ليفعل ما ينبغي في الاتجاه الذي ينبغي وفي الزمان والمكان المناسبين وقد قال الشاعر:
وإن من الأعمال دوناً وصالحاً
فصالحها يبقى ويهلك دونها
ونضج الفكر واتزانه واعتداله ووسطيته كل هذه العناصر تمثِّل السبيل إلى تحقيق الأمن الفكري الذي يؤدي بدوره إلى تحقيق الأمن الاجتماعي والإحساس بالثقة والطمأنينة تجاه النفس والغير، وما يعنيه ذلك من أن صيانة الفكر والمحافظة عليه بصورة مستمرة تعتبر أفضل وسيلة لوقايته من المؤثرات الدونية والممارسات السلبية التي تُضعف مناعته وتنال من حصانته إلى الحد الذي يصبح معه عرضة للانحراف والوقوع في مصيدة التطرف وبراثن الغزو الفكري.
وهذا يعني أن البيئة الملوثة فكرياً من السهل اختراقها، وجعلها بيئة حاضنة للتطرف، ومرتعاً خصباً تزدهر فيه الأفكار المنحرفة، وينمو فيه التسيب الفكري، ويعود ذلك إلى إمكانية التأثير على مَنْ يستوطن هذه البيئة وسهولة خداعهم بسبب أفكارهم الكاسدة وأذواقهم الفاسدة، علاوة على أن التسيب الفكري ما تفشى في أمة إلا سقطت همم أفرادها، ورضوا بالتخلف عن الركب والقعود عن طلب العلا، وقد قال الشاعر:
طريق العلا أبداً للأمام
فويحك هل ترجع القهقرى
وترتيباً على ذلك، وإذا كان الأمر يستدعي ما قرع بابه وجذب أهدابه، فإن ثمة مَنْ صنف العقول إلى ثلاثة أصناف، تبعاً للموضوعات التي يناقشها أصحاب هذه العقول، حيث اعتبروا أحسن مقياس العقلية الإنسان هو الموضوعات التي يهتم بها ويناقشها، فالعقول الصغيرة يتحدث أصحابها عن الأشخاص، والعقول المتوسطة ترقى بأصحابها فوق هذا المستوى وتناقش الأشياء أو الأفكار، في حين أن العقول الكبيرة يتحدث أصحابها عن القيم والمبادئ.
وطالما أن الأمر على هذا النحو، فكيف بأولئك الذين يغردون خارج محيط العقل بتصنيفاته الثلاثة، متخذين من مواقع التواصل المختلفة والعالم الرقمي مكاناً للترويج للرخيص من الكلام الذي يكشف عن فكر هابط ووعي ساقط على المستوى الفردي كما أنه على المستوى الجماعي يوحي بالتسيب الفكري وسقوط الهمم.
ونظراً لأن تداول هذا الفكر يتم عبر وسائل لا يقتصر انتشارها على محيط أصحابها، بل يمتد أذاها، وتنتقل عدواها إلى أكثر من مكان، فإن ذلك يفتح الباب على مصراعيه لتداول ثقافة مبتذلة من قبل أُناس ذات وعي ناقص، مما يشكِّل خطورة على ثقافة ووعي شرائح من المجتمع بسبب انتقال العدوى من مكان لآخر ضمن بيئة مبتلاة، يؤثِّر فيها دعاة الإغواء على الغوغاء.
والدولة ممثلة في مؤسساتها الأمنية والدينية والإعلامية نجحت في التصدي للتطرف بشقيها العنيف والناعم، بما في ذلك السيطرة على بعض ما ينشر عبر الإنترنت من الأفكار الهدامة والممارسات المنحرفة، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي تحتضن الكثير من المصادر التي يجد القائمون عليها شغلهم الشاغل في المتاجرة بالكلام المبتذل والفكر الرخيص، وكل ما من شأنه الإساءة إلى الذوق العام دون وجل من مراقبة أو خوف من معاقبة.
وتوضيحاً لما سبق فإن هناك وسائل نشر تدور في فلك مواقع التواصل الاجتماعي وترك الحبل على الغارب لأصحاب هذه الوسائل لنشر ما يعن لهم ويخطر ببالهم، بعيداً عن المهنية واحترام الكلمة، يتيح لهم مواصلة النشر والتحلُّل من المسؤولية تجاه ما ينشرونه، مما يتطلب وضع نظام لهذه المنابر السائبة بهدف ضبطها وغربلة ما ينشره القائمون عليها لأن استمرار الحال على ما هو عليه أبعد ما يكون عن القبول والاستحسان ومآله إلى الرفض والاستهجان، وقد قال أحد الفقهاء: أكثر الناس وقوفاً يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل. وقال الشاعر:
خُلقنا والمحبة في دمانا
فمَنْ أقصى المحبة ليس منّا
وحب المظاهر والطمع في الحصول على المال كيفما اتفق، والأثرة والجهل والتقليد الأعمى والتحاسد والتنافس السلبي، كلها محطات يلتقي عندها أصحاب الأهواء ودعاة الإغواء مع السفهاء والغوغاء، والمحصلة تسَيّب فكري وثقافة هابطة ولغو قول وانعدام وعي على حساب الصورة الوطنية.
والواقع أن من يلقي نظرة فاحصة على بعض اهتمامات شرائح من المجتمع وما يجري تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي من قبل بعض أفراد هذه الشرائح يحكم على الجميع حكماً لا يخدم الصورة الوطنية للدولة، بل ينال منها في الوقت الذي تبرز فيه الحاجة إلى رفع مستوى هذه الصورة على نحو يواكب ما يمر به الوطن من تحول وطني ورؤية تنموية، ناهيك عن ضرورة أخذ الحيطة والحذر تجاه الظروف الإقليمية والدولية التي يخيم ظلالها على المنطقة.
وإذا كان من عرف نفسه عرف كيف يسوسها ومعرفة النفس مقدمة على غيرها، فإن النقد البناء هو المدخل إلى معرفة النفس والسيطرة على هواها، تمهيداً لتصويب الأخطاء وإصلاح الذات وبالتالي أخذ زمام المبادرة، والناس مفطورون على حب الفضائل إذ إن أصل الفطرة يدعو إلى نبل الفكر وسمو الخلق، فإذا انحرفت الفطرة عن مسارها الصحيح نتيجة للتجاوزات الداخلية والمؤثِّرات الخارجية كان لا بد من تدخل الجهات المسؤولة لضبطها وإعادتها إلى جادة الصواب من خلال نشر الوعي والمراقبة والمحاسبة.