توفي الأسبوع قبل الماضي الدكتور ضياء بن لطفي الخطيب -رحمه الله- بعد معاناة من ورم في المخ ولم تمهله المنية طويلاً وفارق الحياة خلال فترة وجيزة من مرضه وسط ذهول وحزن محبيه.
تعلّم الدكتور ضياء الانضباط والاجتهاد من والده العسكري -رحمه الله- وكرّس نفسه للعلم والتعليم العالي وكان مؤسس كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود كأول كلية متخصصة في الحاسب في المملكة وتعاون مع المرحوم الدكتور عبدالعزيز الصقر الذي كان يرأس مركز المعلومات بوزارة الداخلية آنذاك، وهما كانا يشتركان في الحس الوطني والقناعة بضرورة إنشاء كليات للحاسب في المملكة بدلاً من الابتعاث الذي كانت نتائجه متواضعة آنذاك ووفق في اختيار كوكبة متميزة من الأساتذة أولهم رفيق دربه الدكتور محمد مندوره الذي كان وكيل الكلية أثناء تأسيسها ثم عميدها بعد ذلك، ولك أن تتخيل ما يؤدي إليه أن يكون مؤسسا الكلية من النابغين والدارسين في جامعتين من أفضل الجامعات على مستوى العالم وهي جامعة الينوي وجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية.
وضمن هذه المجموعة الذهبية الدكتور أحمد محجوب -رحمه الله- الذي أصبح وزيراً للاتصالات في تونس لاحقاً والدكتور أحمد طنطاوي الذي انتقل بعد ذلك وتقلَّد مناصب عليا في شركة أي بي أم في الولايات المتحدة الأمريكية والدكتور مراد تايلي والدكتور عبدالله السلامة الذي تولى عمادة الكلية بعدهما وكذلك الدكتور سامي الوكيل الذي تولى عمادة الكلية لاحقاً والدكتور منصور السليمان والدكتور حسن مذكور الذي تولى عمادة الكلية أيضاً والدكتور عبدالله الضلعان والدكتور محمد الأفندي والدكتور عبدالوهاب نورين والدكتور رضا القراقصي والدكتور محمود فهمي والدكتور حاتم أبو السمح وهو أيضاً تولى عمادة الكلية لعدة فترات والدكتور أحمد شرف الدين والدكتور أحمد منظر والدكتور عبدالمنعم وهدان والدكتور أحمد عدس والدكتور محمود فهمي ومعالي الدكتور سعود المتحمي وبقية ذلك الجيل الذي أسهم في إيجاد مئات الكوادر من الجنسين الذين يتقلدون الآن مناصب عليا في الدولة والقطاع الخاص. وهنا تجب الإشادة بجهود معالي الدكتور منصور التركي مدير جامعة الملك سعود آنذاك الذي كان نعم الداعم للدكتور ضياء -رحمه الله- أثناء مرحلة التأسيس. وحتى تخرّج أول دفعة للكلية عام 1406هـ. كل ذلك كان ينبع من رؤية وطنية من حكومة مملكتنا الغالية بتوجيه وتشجيع من وزارة الداخلية على أعلى المستويات وبرعاية خاصة من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله-.
لم يكن ضياء الخطيب ذا منصب عال ولا رجل أعمال ولا شخصية شعبية لامعة لكن كان رجلاً عظيماً في عيون كل من عرفه. لم تطل فترة تأسيس عمادة كلية الحاسب بجامعة الملك سعود ولم يطل مكوث الدكتور ضياء في الجامعة سوى ما يقارب 10 أعوام ترك خلالها انطباعاً يصعب وصفه في ذهن جميع من عرفه من زملائه وطلابه.
حين تقترب من الدكتور ضياء الخطيب فإنك تشعر بهالة ومحيط كله رقي وإخلاص وتفان وتميز ووطنية وتورّع يجبرك على احترامه والارتقاء بنفسك لذلك المستوى السامي ذي المعايير العالية الذي صنعته -كاريزما- ذلك الرجل الفذ.
غادر الكلية لظروف عائلية خاصة وانضم لمنظمة أوبك في النمسا وهناك لمع نجمه أيضاً وترك أثراً رائعاً في المنظمة وفي العديد من الأصدقاء الذين تعرَّف بهم هناك مثل الدكتور جاسر الحربش ومعالي المهندس علي النعيمي وزير النفط السابق.
تشرَّفت بكونه مرشدي الأكاديمي وأستاذي وأيضاً عملت معيداً معه في قسم هندسة الحاسب وأتيحت لي الفرصة عن قرب لأدرك كيف كان ضياء -رحمه الله- عظيماً بمعنى الكلمة.
وفيما يلي نفحات من مدرسة الدكتور ضياء -رحمه الله-:
- كان نبراساً عجيباً في النزاهة: فمثلاً كان يرفض أن يستقبل ممثلي دور النشر الذين يحضرون لتوزيع عينات مجانية من الكتب الدراسية على أعضاء هيئة التدريس خشية أن يؤدي ذلك إلى تحيزه في اختيار الكتاب المناسب للمقررات التي يدرسها فكان يقول أذهب وأشتري الكتب بنفسي وأختار منها.
- سمعته في أحد اللقاءات مع أعضاء هيئة التدريس حين كنت معيداً يحث الأساتذة في الكلية على تحسين العلاقة مع الطلاب والقرب منهم ثم توقف قليلاً وشدَّد على أنه لا يجب أن يقبل عضو هيئة التدريس أي خدمة أو مساعدة من الطالب لأن ذلك قد يؤدي إلى أن تكافئ الطالب بذلك وأنت لا تشعر.
- أخبرني أحد الزملاء أنه رمى بعض أبحاثه في سلة المهملات ولم يقدم على الترقية الأكاديمية في الجامعة لكونها لم تضع وزناً لتأسيس الكلية وإدارتها وآثر عدم التقديم على الترقية ليسجل موقفاً في هذا الخصوص.
- لم يكن الدكتور ضياء يقبل الغش من الطلاب وكان صارماً في معاقبة من يثبت عليه ذلك لكنه كان يؤسس لبناء المعيار الأخلاقي في الناس وقد تشرَّفت بكوني في أحد فصوله التي وزع فيها الأسئلة وذهب لمكتبه ولم يلتفت طالب واحد على زميله! كان يفعل ذلك في الفصول الأخيرة ليترك أثراً في الطلاب!
- كان الدكتور ضياء أنيقاً وراقياً ولكنه لم يكن يكترث لكون ثوبه مكوياً أو لاقتناء أفضل أنواع الملابس والغتر. كان جوهره رائعاً وأنيقاً ولا يحتاج إلى أفخم الملابس لينال احترامك.
- كان لديه الشجاعة ليكون صارماً صرامة مؤلمة إذا اقتنع أنها المطلوبة لتحقيق الصالح العام لم يتردد في ترسيب الطالب الضعيف دراسياً أو عدم قبوله.
- من حكمه الجميلة: الفاسد ستفوح رائحته ولن يضطرك للبحث والتفتيش عنه.
- ضحى بالكثير حتى يوفر لابنه الأكبر عبدالرحمن الرعاية الخاصة المناسبة فانتقل للعيش في النمسا وظل يحرص على أن يعيش عيشة طبيعية كريمة كباقي أقرانه.
وفي الختام: دعواتنا للدكتور ضياء بالمغفرة والرحمة وأن يسكنه الله فسيح جناته، وعزاؤنا لأخيه الدكتور طارق ولزوجته وابنه عبدالعزيز ولجميع أقاربه ومحبيه، وجزى الله صديقه الوفي أستاذنا الدكتور عبدالله بن إبراهيم السلامة كل خير على قربه منه وملازمته له آخر أيام مرضه وهو غير مستغرب من رجل في وفائه وكريم أخلاقه -حفظه الله-.
** **
محمد بن عبدالعزيز العقيلي - أحد تلامذة الفقيد د. ضياء الخطيب