م. بدر بن ناصر الحمدان
يبدو أنني «آخر القَرويِّين» الذين ينتمون إلى جيل نشأ في قرية صغيرة ما قبل ثورة الإنترنت التي جاءت لتنهي حقبة تنافسية طويلة بين مجتمع القرية والمدينة، والتي كان معيار التفوق خلالها يعتمد على القرب من منافذ الاتصال والتواصل والارتباط بمصادر الخدمات والمعرفة والأعمال مما مكّن سكّان المدينة في تلك الفترة من توظيفها لصالحهم وتطوير أسلوب حياتهم، بينما بقي سكان القرية في شبه معزل عن ذلك العالم الخارجي مما نتج عنه ذلك الاختلاف في مواكبة مظاهر الحضارة بمختلف أوجهها.
لا زلت أتذكر عندما كنت صغيراً مستوى التباين الذي كنت أعيشه في زيارتنا الربع سنوية حين كنا ننتقل من قريتنا الصغيرة «عودة سدير» إلى منزل جدي لوالدتي عبدالله بن عبدالرحمن أبو حيمد -رحمه الله- في حي أم سليم بالرياض قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، لقد كانت المحلات المحيطة بدوار (أم سليم) تمثل وجهة سياحية بالنسبة لي، بل كانت هي الـ «داون تاون» بمقياسي الإنساني آنذاك، تفاصيل صغيرة عالقة بذاكرتي لا يمكن نسيانها تبرهن على تلك المسافة الحضرية بين المدينة والقرية لطفل صغير لم يتجاوز السبع سنوات، ثمة حوار كان بداخلي حينها لم أتمكن من خلاله الوصول إلى نتيجة تمكنني من فهم ذلك المشهد.
اليوم وبعد دراستي وتجربتي العملية في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن طوال السنوات الماضية بدأت أجد إجابات مقنعة لذلك الحوار الذي أشغل فكر طفل عاش نشأته بين القرية والمدينة، فهو في الأخير نتاج بيئته، الفرق الجوهري يكمن في الأدوات الحضرية التي تساعد في إدراك المكان وبالتالي استثمار مقوماته في تعزيز وتطوير ما يمتلكه الفرد من قدرات بشرية فطرية.
يتحدث عالم الاجتماع «كلايد ميتشل» عن فكرة الانتقال إلى المدينة والإقامة فيها كشرط للتحضر أو كما يصفه بنمو أشكال وقواعد السلوك التي تميز المناطق الحضرية، ربما كان هذا المفهوم مقبولاً قبل الثورة التقنية أما الآن فالأمر مختلف تماماً، وربما لو عاد السيد «ميتشل» لمراجعة ذلك حتما سوف يتنازل عن هذا المعيار بعد التحول الذي طرأ على تنافسية التجمعات الحضرية بمختلف أحجامها.
قاطنوا القرى والمدن الصغيرة عاشوا معاناة كبيرة مع تلك العزلة إبّان حقبة (اللا إنترنت)، لكن اليوم اختلفت المعادلة، حيث يقف الجميع على مسافة واحدة، فلم يعد هناك فروقات تذكر، فتقنية الاتصال ساهمت في تطور العلاقة بين مقدم الخدمة والمستفيد وبناء منظومة تمكن كلا الطرفين من الإيفاء بمتطلبات الآخر فمن يسكن القرية يمكنه الوصول إلى أي مصدر معرفة على وجه الأرض، والاشتراك في أي خدمة عن طريق شبكة المعلومات العملاقة والحصول على أي منتج حتى عتبة بابه، لقد تلاشى متغير المكان ولم يصبح عنصراً تنافسياً، وباتت تقنية الاتصال العامل الأول في فرض تكافئ الفرص.
لطالما كانت «القرية» مصدراً رئيساً للثقافة والحضارة والعلم والمعرفة، وانطلق من أروقتها أغلب المفكرين والعلماء ورواد التنمية، وهي الحاضن للقيم والمبادئ الإنسانية، أنا ابن القرية وأفتخر بأنها المرحلة الأهم في رحلة الحياة، وأجمل محطات العمر، والأرض الأكثر إلهاماً نحو مواصلة الطريق إلى المستقبل، الانتماء إلى الأماكن يعزز الرغبة في معانقة تفاصيلها، فلا قيمة لأي إنسان لا يعتز بالمكان الذي تشكلت فيه هويته وثقافته.