ياسر صالح البهيجان
في رحلتي لمدينة برشلونة الإسبانيّة اخترتُ أن أسكن بالقرب من شارع «الرامبلا»، أحد أكثر الشوارع حيويّةً وانتعاشًا حتى ساعات المساء المتأخرة. أمضيتُ هناك خمسة أيامٍ دون أن يتسلَّل إليّ الملل. وجودي بالقرب من «الرامبلا» كان كافيًا ليعرفني على تفاصيل المدينة الكتالونيّة. وما زلتُ أحتفظ برسمة كاريكتوريّة لي رسمها فنان إسباني جعل من الشارع مكانًا له ليمنح الزوّار تذكارًا لا يُنسى.
في «الرامبلا» تعرَّفت على تاريخ العملات الإسبانيّة، وأبرز المعزوفات الموسيقيّة، والرقصات الشعبيّة، والفنون التشكيليّة، والأدب، والمنحوتات، والتحف الأثريّة والألبسة. كان الشارع بمثابة كتاب مفتوح تتصفحه وأنت تسير على قدميك. وشكّل بمفرده نموذجًا للمدينة الحضريّة الحديثة التي تؤمن بأن الطرقات انعكاس حقيقي للمجتمع ومساحة متاحة للجميع في إطار الذوق العام والضوابط النظامية.
تكلفة شارع «الرامبلا» تعبيدًا وتشغيلاً وصيانة لا تختلف عن أي شارع في مدننا. لكن الذي يختلف هو التخطيط الجيّد والمتقن لتعظيم حجم الاستفادة من الطرقات وتهيئتها لتكون أكثر من مجرد مساحات لاستيعاب المركبات، بل حيز لاحتواء حياة اجتماعية بأكملها وبأدق تفاصيلها. ذاك يرسم لوحة فنيّة، وآخر يعزف نوتة موسيقية، وثالث يبيع تذكارات سياحية، ورابع يجعل من جسده تمثالاً بديعًا، وآخرون يحتسون القهوة، ومثلهم يمارسون التزلّج، وغيرهم يمتطون الدراجات الهوائية.
نستبشر خيرًا بالتحركات الجادة لوزارة الثقافة وما ينضوي تحت مظلتها من هيئات جديدة تُعنى بالفنون والتراث الوطني، ويزداد تفاؤلنا بما تضطلع به هيئة الترفيه من أدوار كبرى في تنمية القطاع وتطويره، ويتعزَّز شعورنا الإيجابي بما تفعله وزارة السياحة من برامج غير مسبوقة، ويرتفع سقف طموحنا بما تقوم به وزارة البلديّات من أعمال جبارة في تحسين المشهد الحضري، وبإمكان خطوط المربّع أن تتكامل لإحياء شوارعنا، وأجزم بأن تعاونًا حثيثًا بين الجهات الأربعة سيحدث فرقًا هائلاً في طرقنا.
الطرق في مدننا تحمل كافّة مقومات الحياة متى ما وجدت إستراتيجيّة واضحة لإحياء فراغاتها. المواهب الشابّة لدينا يعزّ حصرها وهي تتطلّع بشغف إلى تهيئة الفضاءات العامة لاستقبال إبداعاتها. نريد من طرقنا الصامتة حاليًا أن تنطق وتعبّر عمَّا لدينا من ثقافة وإرث حضاري وإنساني عظيم. نريدها أن تُلهم العالم بقصصنا وملاحمنا الوطنية. نريدها سوقًا مفتوحة تدعم مشاريع أبنائنا وبناتنا الواعدة. نريدها مسرحًا فنيًا لمعزوفاتنا ورسوماتنا. نريدها معمورة بالحكايا والضحكات والمسامرات. نريدها «رامبلا» أخرى ولكن بهويتنا وبصمتنا وحضارتنا ووطنيتنا.