حمّاد السالمي
ودّع الوسط الفني والثقافي والمجتمع الطائفي على وجه الخصوص منتصف الأسبوع قبل الفارط؛ الفنان المسرحي: (عبدالله بن محمد نيازي)، الذي وافاه الأجل المحتوم بعد معاناة مرضية لبضع سنوات. رحمه الله.
كان وداع الصديق النيازي في مسجد عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-؛ وكذلك في مقبرة الجفالي حيث مكان الدفن؛ علامة فارقة ودالة على خيرية المجتمع الذي أظهر الحب والوفاء معًا حتى في أيام العزاء التي تلت الدفن. فقد اكتظ المسجد بالمصلين، وازدحمت المقبرة بالمودعين، وظل الأوفياء يعزي بعضهم بعضًا في رد جميل لرجل لم يُعرف عنه إلا الأدب الجم، والخلق النبيل، وعزة النفس والوفاء المنقطع النظير. لقد عاش النيازي وفيًا ومات وفيًا، فهذه الجموع التي احتشدت في وداعه؛ وفيّة له كما كان وفيًا معها، فالناس شهود الله في أرضه. قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ
فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
عرفت النيازي -رحمه الله- منذ أعوام طويلة؛ فقد كان رفيقًا وصديقًا وقريبًا للفنان الكبير الراحل (عبدالله بن جعفر المرشدي ت 1428هـ)، الذي رأس جمعية الثقافة والفنون بالطائف طيلة ثلاثة عقود، وأسس مع الأستاذ طلال طائفي، والمرحوم يوسف محمد، وبقية الفنانين التشكيليين والمسرحيين والموسيقيين بالطائف؛ لأعمال فنية رائدة، تميزت بها الطائف وما زالت حتى اليوم. كان آخر لقاء بين النيازي وبيني قبل وفاته بيومين اثنين، ومن جديد؛ تكلمنا على عمل فني توثيقي رائد أنجزه المرحوم المرشدي قبيل وفاته، لكنه اختفى معه. إنه (السفينة الفنية)..! ما قصة هذه السفينة..؟
في العام 1408هـ؛ كُلّفت من قبل معالي فهد بن معمّر، محافظ الطائف السابق؛ برئاسة لجنة المطبوعات التي أصدرت عن الطائف وللطائف 52 إصدارًا حتى العام 1433هـ.
وفي صائفة العام نفسه؛ وزّعت اللجنة أربعة كتب كانت هي باكورة إنتاجها، وزرت الفنان المرشدي في مكتبه ومعي نسخ من هذه الكتب، ودار الحديث حول التوثيق الفني للطائف، واقترحت عليه إعداد كتاب في هذا، على أن تتولى اللجنة طباعته وإصداره، فرحب بذلك، وشرع في العمل، وكنت أزوره بين وقت وآخر؛ وأرى بعيني كراسة كبيرة (كتالوج) على مكتبه مكتوب عليها بخط عريض: (السفينة الفنية). رأيت كيف أنه كان يرصد ألحان الطائف، والكلمات الغنائية، والجمل الموسيقية، وأسماء وتراجم الفنانين والفنانات. إلى غير ذلك مما يعد عملًا غير مسبوق. كنت أستعجله حتى قبيل وفاته بشهرين، حين زارني بنادي الطائف الأدبي، ورحت أذكّره بطريقة ساخرة على طريقته هو رحمه الله فقلت: متى تبحر سفينة الطائف الفنية..؟! ضحك رحمه الله وقال: أبشرك السفينة جاهزة للإقلاع. أمهلني شهرين وأسلمك الكراسة، فأنا ذاهب للعلاج بجدة غدًا. ذهب في الغد، ولم يأت الغد، ولم يعد المرشدي للطائف. توفاه الله، ورحت أبحث وأصدقاء منهم طلال طائفي، وعبدالله نيازي، عن السفينة التي اختفت حتى يوم الناس هذا، وكان النيازي شاهدًا على العمل الضائع، وكان يحدثني عن بعض محتوياته، ولكن. أين هذا التوثيق..؟ الأمل ما زال يراودني ويراود محبي الطائف؛ أن يظهر هذا العمل الكبير. فمن يحقق لنا ذلك من أسرة المرشدي، ومن أخلائه وأحبائه..؟
ضياع سفينة الفن التي شيّدها وبناها المرشدي في حياته، تذكرنا بعمل كبير آخر هو حتى اليوم في حكم الضائع. فقبل وفاة المؤرخ والمحقق عضو لجنة المطبوعات الأستاذ الدكتور (ناصر بن علي الحارثي ت 1430هـ) رحمه الله بثلاثة أعوام، طلبنا منه إعداد موسوعة عن آثار الطائف، وتم دعم الفكرة من قبل محافظ الطائف -آنذاك- فهد بن معمّر، وشرع الحارثي في العمل حتى قبيل وفاته بثلاثة أسابيع، حين هاتفني طالبًا مني زيارته في دارته بمكة لاستلام الموسوعة الذي قال إنها جاهزة على جهاز الكمبيوتر، كان ذلك مساء يوم 19 رمضان المبارك، فوعدته بالزيارة بعد العيد، لكن سبقني القدر، وبعد ذلك؛ بذلت المستحيل ومعي أقرباء وأصدقاء له ولأسرته، فلم نجد الحلم الذي كنا نسعى ونعمل من أجله في لجنة المطبوعات. أين ذهبت موسوعة الطائف الأثرية..؟ من يعيد لنا الأمل والحلم من بين أسرته وأصدقائه، ويبحث من جديد لعل وعسى..؟
كان المرحوم المرشدي باحثًا جادًا، وهو الخبير بالتاريخ الفني والموسيقي للطائف، وكان الآثاري ناصر الحارثي مؤرخًا ثبتًا، وحريصًا على استقصاء كل أثر ونقش بالطائف وما حولها، وهي الزاخرة بهذا التاريخ المرتبط بالسيرة النبوية الشريفة. طلب مني تزويده بصور لعشرات النقوش الصخرية التي عثرت عليها ووثقتها في رحلاتي حول الطائف، ومنها على سبيل المثال: 36 نقشًا صخريًا غير منقوط، وجدتها في مكان واحد بطرف درب الحاج العراقي في مركز (مِسلح) على طريق المحاني، لم تعرف من قبل، وقال إنه فسّرها وضمّنها الموسوعة.
أعرف أن خسارة الرجال الكبار من أمثال: دكتور ناصر بن علي الحارثي، والفنان عبدالله بن جعفر المرشدي، والمسرحي عبدالله بن محمد نيازي.. خسارة كبيرة. وإن خسارتنا التاريخية والفنية في فقد عملين كبيرين كالسفينة الفنية وموسوعة الطائف التاريخية؛ هي كذلك خسارة كبيرة. وأي خسارة هي..؟ دعونا نترحم على هؤلاء الرواد، ونبحث بكل جد وهمّة عن آثارهم، لعل في هذا ما يخفف من آلامنا في فقدهم.