هدى مستور
كسجين قضى كل عمره حبيس غرفة مظلمة، لا يتسلل إليها ضوء الشمس إلا من خلال ثقب، فهو لا يؤمن أن وراء الجدران والقضبان، حيوات لم تدركها حواسه، يتمتع بكل مباهجها، كل من تحرر من سجنه.
هذا حال كل من لم يؤمن إلا بما تقع عليه حواسه، ولا يتبنى إلا المفاهيم الدارجة، ويروي ظمأه برشفات من ماء آسن من القناعات الشائعة.
القوى العالمية، ولعبة الفوز والخسارة
جرى احتكار دولي لوصف «القوة» في صورتها الصلبة، من خلال السبق في امتلاك العتاد العسكري، التقدم الصناعي، والازدهار الاقتصادي فضلاً عن تسجل سبق الأولوية في الاكتشاف العلمي، القفز التكنولوجي، من هنا تزعمت تلك الدول الأهلية لإدارة قواعد اللعبة عن طريق التحكم السياسي، وفرض الهيمنة الاقتصادية، وكذلك إفساح الطرق أمام المد الهادر من ثقافتها الممرحلة لما بعد الحداثة.
دائرة القوة وزعت أقطارها بين التحكم بالتجارة العالمية، ووفرة الموارد الطبيعية، والسيطرة على سوق الإنتاج، وتبقى قيمة العلم، والاكتشاف، مضخة الجسد القادرة على التحرك والصعود السريع، فبالعلم أنقذ الله البشرية من الفناء بسبب فيروس ضئيل، ولم تعد معظم الأوبئة قاتلة، وبالعلم أصبحت حركة الإنسان وتنقلاته واتصالاته أكثر سهولة وانسيابية، وبالعلم نجح ملايين البشر في ردم جدار البؤس والفقر، وبالعلم تذوقت البشرية لذائذ جمدت زمناً كالشعور بالرفاهية، ودهشة الاكتشاف، والإحساس بالتجدد، وتجسيد مفاهيم، لم تعرف من قبل كالاتساع والتطور.
إلا أنه للأيدي الخفية التي تتلاعب بقيمة العلم تشار أصابع الاتهام في التقدم الخارق لصناعات ترسانة كاملة، من الأسلحة النووية، والمقاتلات الذكية، والفيروسات المصنعة، كلها وضعت في خدمة أطماع الحمقى والطغاة.
و في مختبرات العلم السرية سُربت الأوبئة، كحرب اقتصادية باردة، بين أقطاب القوة المتنافسة، واحترقت طبقات الفضاء بالملوثات الصاعدة، ومررت صفقات بشعة لتحويل مساحات واسعة من أراضي الدول الفقيرة إلى مكبات للنفايات النووية، ولم تسلم حتى قيعان المحيطات والبحار من المدافن النووية، أما الزراعة فقلما تجد مساحة خضراء إلا وقد غطتها غمامة سامة من المبيدات الحشرية الكيميائية.
اختارت السيادة البشرية المشاركة في لعبة، قائمة على دوام الصراع، والخراب، والتآمر، لأجل إحكام القبضة وفرض الهيمنة العالمية، وإن ادعت غير ذلك، إلا أن الواقع يكشف أن ذلك، لا لأجل نشر القيم كالإنسانية، والفضيلة والتسامح والعدالة والحرية، وإنما للتفرد بالغلبة والسيادة وحسب.
إن الشعور الجمعي بالتوتر والقلق في آن واحد، من جراء حصول الفراغ حين يهدد التوازن بين دوائر القوى، هو ما أفرز المزيد من الصراعات والانتفاضات في ظل هيمنة الدول (القوية) وإدارتها لقواعد اللعبة.
يمكننا ابتداءاً التشكيك في مصدر مفهوم «القوة» والتفوق، إذ هو عائد في تاريخه إلى مصفوفة أخلاقية نظمتها الطبقات البرجوازية المستبدة الغالبة، منذ أزمنة سحيقة تعود إلى الحضارات الوثنية القديمة، والتي نجحت في تشكيل مفاهيم أخلاقية تتفق مع امتيازاتها وأهدافها، أقرت بأن رديف القوة هو التحلي بالتهور والشجاعة وطريق التفوق هو التفرد بقبضة الموارد لجلب الازدهار المضاعف، وسبيله الحروب والاحتلال. فإذا كان مفهوم قيمة القوة يعود في جذوره إلى ثقافة سادية قديمة، حينها نثق بمحدودية، وطبقية، قوانين تلك اللعبة، فهي لا تتجاوز في مرجعيتها مصلحة حفنة من طغاة البشر. يعود سبب ثبات دائرة اللعبة القائمة على اشتراط القوة، وازدياد محيطها اتساعاً، وحركتها سرعة ونشاطاً، إلى نجاحها في عمليات الموازنة العالمية، بين أقطاب القوة المهيمنة، من خلال اتباع سياستين معاً تراوح ما بينهما:- الأولى: اجتذاب واستقطاب مشاعر وأفكار، الجماهير، وضخ ولاء الأغلبية الكاسحة من البشر باتجاه مركزية الدول المتحكمة؛ لم لا!؟ فبعد تضاؤل البعد المتصلب القهري للقوة، أمام مد الوعي الإنساني المتصاعد، تم تبني قوة رشيقة تقوم على التسارع التكنولوجي، وأدواتها الثورة المعلوماتية، والإعلام المؤدلج.
الثانية: عمليات المد والجزر تارة، والمقاربة والتنافر تارة أخرى، والزهو بالربح والتهديد بالخسارة، تتم بين دوائر القوى المشتركة في اللعب، من خلال عقود التفاوض مرة، وحيل التصارع مرات.
تلك الآليات التي جرى استغلالها بقصد التلاعب بالمخاوف الغريزية للبشر من خلال الإبداع في صناعة الموت وتصديره، بدعم من جهات إعلامية، وعبر صياغة نشرات إخبارية موحدة تنقل من كافة منصات القنوات، تجعل منه الخبر المتصدر والأول في الترند. ومعه تحيل الإنسان الحر البريء المبدع، إلى كائنِ متوجس، منكمش، يخاف حتى من أن يرتطم بظله.
ذلك يحدث جنباً إلى جنب مع تصدير ثقافات عالمية مُعولبة، شرقية آسيوية أو غربية أمريكية، تتقاطع أحياناً وتتصادم في عدد من المرات، عن طريق الجذب السياحي، والترويج للثقافات الملونة فيما يتعلق بالفنون والموسيقى والترفيه والترويح، ووسائل الاستطباب والتشافي أيضاً.
وإن كنت لا أميل لخطابات الإدانة؛ لأنها تحمل في طيها شعوراً بالضعف، وفقد السيطرة، مع التحرر من المسؤولية، إلا أننا نتفق على أن ترويع البشر، وإخافتهم، يزداد اتساعاً في ضرره، ويزداد معه البشر انكماشاً في نموهم، وازدهارهم.
والأمر نفسه يحدث عند تحويل البشر إلى مجرد قطيع يتبع ناعق الخوف والاحتياج، والاشتهاء، والاستمتاع بالزيف، والانغماس في التفاهات، والعيش في حال استباق وتسابق.
كان علينا ألا نسمح بحدوث ذلك كله لنا، لو أننا اضطلعنا بحق المسؤولية الواعية، تجاه أنفسنا؛ لابد من الاعتراف بأن كل هذه الموارد هبات من الله تعالى، وشكره يقتضي تسخيرها لخدمة الإنسان، وتحقيق معنى خلافة الله على أرضه، دون أن نسمح لأنفسنا بالمشاركة الساذجة ضمن قواعد لعبة يديرها السادة الأقوياء.