أسعد كلما قرأت كتاباً نثرياً كتب بلغة رشيقة وأفكار واضحة وخيال مجنح، كالكتاب الذي بين يدي (ألقيه في اليم) للأستاذة مشاعل بن عمر بن جحلان. لا سيما أنه يعيدنا إلى فن الرسائل الذي كدنا نفقده قبل حلول الألفية الثالثة بعقود.
يقع هذا الكتاب في عشرين ومائة صفحة من القطع المتوسط صادر عن مركز الأدب العربي في طبعته الأولى سنة 1441-2019
تقول الكاتبة متحدثة عن بواعث تأليف الكتاب: «الشيء الذي دفعني للكتابة هنا هو أنني مررت بالعديد من المواقف التي كان ينبغي فيها الرد لكني آثرت الصمت حينها.. التزمت الصمت كثيرا حتى حسبته لعنة ابتليت بها. ومع يقيني بأني تأخرت في إرسال كلماتي لهم، وأن لا شيء سيفيد الآن لو قلتها إلا أنني تعبت من تكرارها على نفسي ومحاورة ذاتي بها».
تروي المؤلفة حكايتها مع مُدرِّستها اللطيفة في المرحلة الابتدائية لتي انتُزِعت منها قسرا إلى فصل آخر تُدَرِّس فيه مُدرسة لم تطمئن إليها فلاذت بالصمت، وعجزت هذه أن تطلق لسانها. وحين سألتَها لم لا تتكلمين؟ قالت: (لأني لا أريد) وهي مقتنعة بأن هذه أبلغ إجابة. ومع أن المعلمة لم تقبل هذه الإجابة إلا أنها ارتكبت خطأ مشابها حينما سألتها الطالبة: لماذا لا أبقى في فصلي؟ فقالت لها المعلمة: (ما عاد ينفع.. ما عاد ينفع وحسب)! ص11
وتمضي في رسائلها إلى أمها، ثم إلى أبيها الذي فقدته طفلة، وإلى خالها الذي حلَّ محل الأب فترة لم تطل فأصيبت باليتم مرة أخرى لفقده.
ومن الرسائل التي حملتها صفحات الكتاب رسالة إلى سيدة جمعتها بالمؤلفة المصادفة، لكن موقفها استدعى احتفاظ الذاكرة بها حتى حانت لحظة التدوين. تقول نصًّا: «أمام مصعد النزول بأحد الأسواق وقفتُ وأنا محملة بالأكياس ومختنقة بالحر.. استأذنتها بذوق إن كانت هناك ثمة مساحة لأنضم معها في المصعد، إذ كانت تجلس على عربة يدفعها عامل، وآخر يدفع عربة المشتريات التابعة لها، فأجابتني بلطف الدنيا بأسرها: «تعالي يا بنتي أشيلك في قلبي وفي عيوني»! ص25
وتحمل بعض هذه الرسائل قدرا من الحكمة والرأي. تقول لأحدهم: «ستخسر ثلاثة أرباع الجمهور إن حاولت تعليمهم كيف يكون الحب صحيحاً.. قَدَر الحب أن يظل خاطئاً.. قاتلاً.. لعيناً»!. ص32
وتقول في موضع آخر: «البعض يجاهد ليجد مكانا في قلوب الناس.. والبعض الآخر يجاهد لينزع نفسه من أي مكان قد يضعه فيه الناس.. البعض يختار طريقا نائيا عنا.. والبعض يشرع قِبلة قلبه نحونا ... إنْ سَيَّرتك الريح يوما قربنا فتذكر أن المقاعد لا تظل شاغرة ومتاحة دوما». ص33-34
وللكاتبة رأي وسط بين الاعتماد على الذات والاستعانة بالآخرين. تقول في رسالة لأحدهم: «لطالما بالغت في اعتمادي على ذاتي وكافحت لإثباتها.. وظللت أدعو الله كثيراً ألا أحتاج لأحد غيره.. لكني مع الوقت تعلَّمت أن الله خلقنا وسخَّر بعضنا لبعض؛ لذا عدلت صيغة دعائي. ها أنا أدعوه: ربي لا تجعل حاجتي بين يدي من لا يخافك فينا». ص63
وترسل لإحداهن رسالة لم تكن ترغب في إرسالها لولا أنها خشيت أن تختار من رسائل الكتاب رسالة تظن أنها المعنية بها فتقول: «لم أكن أنوي أن تكون لك إحدى رسائلي. عزمت أمري على إزالتك من كل مشاعري، وعلى تجاهلك وحظرك من دائرة حياتي. لكني خشيت إن قرأتِ أحرفي أن يبحث غرورك عنك في ثناياها، وخشيت أن تسرقي إحداهن لك». ص64
وفي توجيه ساخر لمن يكتب سيرته الذاتية دون أن يكون عنده معين يمتح منه تقول: «مجرد فكرة الإقدام على كتابة السيرة الذاتية تعني أن المرء يتمتع بقدر غير قليل من الثقة العالية.. وربما الغرور الذي لا يمكن التغاضي عنه وإغفاله. وحينها سيضع المرء نفسه أمام تحد إذ كيف سيثبت للقارئ أنه شخص مؤهل لتصبح له سيرة تروى». ص81
** **
- سعد عبدالله الغريبي