تأتي كلمة إبستمولوجي Epistemology من الكلمة اليونانية episteme وتعني المعرفة. أول من استعمل هذا المصطلح لهذا الفرع المعرفي هو الفيلسوف الأسكتلندي جيمس فريديريك فرير James Frederick Ferrier. يشير مصطلح (إبستمولوجي) اليوم إلى نظرية المعرفة التي يدرسها الطلاب في كثير من الجامعات في بداية التحاقهم ببرامج الدراسات العليا، وتقوم هذه المقررات بعملية غربلة شاملة لنظرة الباحث تجاه البحث العلمي. ولهذا الفرع من الدراسات تاريخٌ طويلٌ في الفلسفة الغربية إذ لا تخلو جهود كبار الفلاسفة من الإسهام في بناء هذه النظرية التي تَدرُس عدة جوانب منها: التحليل الفلسفي للمعرفة، وكيف يمكن تفسيرها، ومجالاتها إضافة إلى البحث عن العلاقة بين المعرفة ذاتها والمفاهيم الأخرى مثل الحقيقة والاعتقاد، والتبريرات التي تدعم ذلك
وهل هي تبريرات موضوعية أم لا؟ ثم لا تكتفي النظرية بدراسة العلاقات بين المفاهيم بل تمتد إلى دراسة علاقة الحقائق الواقعية بالمعرفة النظرية وهل تقودنا تلك المعرفة إلى تلك الحقائق أم العكس؟ وهل تلك الحقائق في الواقع تُصَدِّق المعرفة النظرية التي لدى الإنسان أم تُكذّبها؟
مثل هذه التساؤلات لا تقتصر على المعرفة النظرية بل تشمل المهارات التي لا يخلو إتقانها من الإلمام بشيء من المعارف الأساسية التي يمارسها الإنسان بشكل يومي. ويمكن تقديم المثال التالي لما يصلح أن يُعدَّ تطبيقاً للنظرية في جوانب مثل الحقيقة والتبرير والانحياز: فحينما يرغب شخص ما بعبور جسر آيل للسقوط فسيقوم بالتفكير ملياً في ذلك وغالبا ما سيبحث عن التبريرات الحقيقية اللا متحيزة لعبور ذلك الجسر بل ربما يقوم بجمع المعلومات عنه من خلال تجارب الآخرين؛ لأنه إن لم يفعل ذلك فسوف يعرض نفسه للهلاك؛ لهذا فإن التحيز يكون أقل بكثير في مثل هذه التجارب التي إن لم يلتزم فيها الإنسان بالتبريرات الحقيقية لعبور ذلك الجسر هلك. فهو لن يعبر الجسر تحيزاً لما فعله أجداده الذين عبروه بعد تشييده حينما كان عبوره آمناً. بخلاف المعارف النظرية التي يقع فيها تحيز لمبررات واهية؛ لأن التحيز في العلوم النظرية إلى رأي معين لا يسبب الأذى المباشر للمتحيز غالباً كما في مثال عبور الجسر.
من هنا يمكن القول بأن الاختلاف في مثل هذه الجوانب كالأسئلة المعرفية ودوافعها ومبرراتها يلعب دوراً في وقوع الخلافات الجوهرية بين البشر. ومن ذلك اختلاف وجهات النظر في الاجتماعات أيا كانت ومنها المجالس العلمية التي تضم عدداً من المشتغلين بتخصصٍ ما. المفترض أن يكون الخلاف بينهم علمياً كالاختلاف حول تفسير أو فهم ظاهرة معيّنة كما يمكن أن يكون الخلاف بينهم منهجيّاً كالاختلاف حول تطبيق منهج معيّن لمعالجة المادة العلمية ونحوها. مثلُ هذه الخلافات لا شك أنها مما يصب في مصلحة القضية المطروحة للنقاش وذلك بتقديم وجهات نظر تخصصيّة تسهم في رفع مستوى البحث العلمي وترتقي به. لكن حينما يكون الخلاف إبستمولوجيّا (معرفيّا) ليس علميّا ولا منهجيّا هنا يقع الإشكال؛ لأن الخلاف الإبستمولوجي قد لا يخدم القضية المطروحة للنقاش في بعض الأحيان. يمكن شرح ذلك كالتالي: حينما يختلف المتحاوران حول جدوى الموضوع ومبررات دراسته فيرى بعضهم أن له فوائد جمة في التخصص ويرى غيرهم تفاهة ذلك الموضوع وتهافته، أو يناقش بعضهم بأن هناك عددا كبيرا من المبررات لطرح هذه القضية وتناولها ويرى البعض أن تلك المبررات غير مقنعة أو زائفة، هنا يكمن الخلاف الإبستمولوجي وربما دل على أن البناء المعرفي لدى المتحاورَين مختلف إلى حد كبير. هذا البناء المعرفي هو المسؤول عن تشكيل تبريرات الدراسة وجدواها. نتيجةُ هذا الخلاف لدى الطرفين تدفع أحدَهما للمضي قدما في عمل ذلك الشيء المُجدي من وجهة نظره، وتدفع الآخرَ للإحجام إذ لا يرى جدوى لذلك العمل.
قد تكون هناك خلافات أخرى مدفوعة بأسباب تخص صانع الخلاف تمشيّاً مع أغراضه أو ربما أمراضه الخاصة ولا حاجة لشرح ذلك؛ لأن الحديث في هذه المقالة ينطبق على الخلافات التي تجيب على الأسئلة المُلِحّة لدى مختصين يختلفون في بنائهم المعرفي. ويمكن ضرب المثل من بعض الجوانب في الدرس اللغوي، فعلى سبيل الافتراض لو أن شخصا قابل الأصمعي -رحمه الله- وهو يجمع اللغة في بَوَادي جزيرة العرب وقال له: الأفضل أن تجمع المادة العلمية من الحواضر وليس من البوادي للأسباب التالية أياً كانت، لن يقتنع الأصمعي بذلك؛ لأن لديه مبرراته ودوافعه الخاصة التي شكلت أسئلته البحثية. في المقابل لو أن شخصا أراد أن يقنع أحد جماع معاجم اللغات الأوروبية في عصور النهضة بأن مادة المعجم لابد ألا تُجمع من الحواضر ولكن من الضواحي والأماكن البعيدة عن المدن لما أقتنع جامع المعجم الأوروب ي بذلك. وهنا يتضح الخلاف المعرفي بين جماع اللغة العربية في القرون الوسطى وجماع اللغات الأوروبية في بواكير العصر الحديث. يقع مثل هذا الخلاف الإبستمولوجي بين دارسي اللغة اليوم: فحينما يدعو أحدُ المتحاورين إلى دراسة لهجة ما ويرفض الآخرُ مثلَ هذه الفكرة ويتساءل عن جدوى دراسة اللهجات فإن هذا مؤشر قوي لوجود خلاف إبستمولوجي بين المتحاورَين. وربما أن دارس اللهجة لو اتضح له أن هناك فروقاً صوتيةً لا تكاد تدركها أذن السامع بين ناطقي اللهجة الواحدة لعدّ ذلك أمرا غاية في الأهمية، بينما هو ذاته لا يرى أهمية للتعمق في سير علماء اللغة. في المقابل ربما أن الذي لا يرى أهميّة لدراسة اللهجات لو ثبت له (على سبيل الافتراض) أن سيبويه - رحمه الله - لم يمت كمداً بسبب المسألة الزنبورية بل إن هذه القصة من صنع بعض تلاميذه - بعد أن أخبرهم بأنه قرر اعتزال المشهد النحوي ثم تزوج (لم يمت عزبأ) وعاش طويلا وله ذرية معروفة إلى اليوم - لعدَّ ذلك أمراً في غاية الأهمية.
ختاماً الخلاف الإبستمولوجي في المجالس العلمية قد يشير إلى اختلاف التخصصات بين المتحاورين وهذا ما يحد من مستوى البحث العلمي حيث ينحصر النقاش أحيانا في التساؤلات القبلية للقضايا والبحوث مثل جدواها ومبرراتها بدل أن يكون الحوار حول الارتقاء بتلك القضايا والبحوث علمياً ومنهجياً. ثم إن الخلاف الإبستمولوجي قد يولد حالة من الاستقطاب التي لها تبعات ضارة إذ يتحول النقاش إلى ما يشبه السجال السياسي بين المترشحين يبحث فيه كل منهم عن صوت أغلبية أياً كانت صامتة أم ناطقة، مهتمة بالتخصص الدقيق للقضية المطروحة أم لا، وهذا توظيف خاطئ للتصويت في اعتماد أمر ما أو ردّه. (للمزيد حول مثالب التصويت وعيوب الانتخابات عموما يمكن الاطلاع على كتاب ديفد ريبروك Daviv Rybrouck نشره في 2013 بعنوان Against Elections ضد الانتخابات). ثم إن الخلاف الإبستمولوجي ضارٌّ أيضاً في مناقشات الرسائل العلمية؛ ولهذا نسمع أحيانا حتى في الجامعات البريطانية حينما يخفق بعض طلاب الدراسات العليا بأن: بحثه جيد لكنه got the wrong examiner (حصل على مناقِش غير مناسب). وذلك حينما يختلف المناقش مع الطالب ومشرفه اختلافاً إبستمولوجيا قد يدفعه لرد الرسالة أو إعطائها تقييماً متدنياً وهذه مسؤولية تقع على عاتق المشرف الذي يُفترض أنه يرشح مناقشين مختصين.
إن الخلاف الإبستمولوجي قد يكون مؤشراً قوياً على الاختلاف في التخصصات الدقيقة نتيجةً للتشعب الكبير الذي طال التخصص العام وفي مثل هذه الحال تلجأ بعض الجامعات إلى فتح أقسامٍ جديدة تجمع المتخصصين فقط، أو إلى فكرة المسارات داخل الأقسام بحيث يشتغل كل أصحاب فن دقيق بتخصصهم. كما يمكن تفعيل فكرةٍ يمكن لنا أن نسميَها أقسام تكنوقراط (خبراء)، بحيث تُقَامُ الاجتماعات تبعاً للتخصصات الدقيقة وبهذا يكون الخلاف بين المتحاورِين علمياً منهجياً وليس معرفياً إبستمولوجيا. هذا أجدى بكثير من فكرة اللجان الفرعية المختصة التي تعرِض عملها على غير مختصين.
** **
- محمد ظافر الحازمي