د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الأغلب ممن أتيح لهم أن يتقلدوا مناصب معينة عبر التاريخ لم يسجلوا طرفًا من ملاحظاتهم أو مشاهداتهم أو أفكارهم، ومنهم من دونها انطلاقًا من خلفيته الاجتماعية، وبيئته التي ترعرع بها، ومنهم من سطرها تزلفًا للحاكم، أو خوفًا منه، ومنهم من أرخها مدفوعًا بالوهج الثقافي السائد في زمانه، وعلى رأس الوهج الثقافي المعتقد والمذهب، ويبقى القليل ممن تحرروا من القيود للبوح بما يرونه صوابًا، وليس بالضرورة، أن يكون كذلك، لكنه بوح يعطي للأجيال اللاحقة طرفًا من واقع خالٍ من شوائب التأثير الخارجي، ومقتصرًا على نظرة المؤرخ وطبيعته، وهذا ما شاهدناه في كتاب المقتبس لابن حيان مثلاً، شيخ المؤرخين الأندلسيين والفظ في حكمه وألفاظه، لكننا لا يمكن أن نستقي الحقيقة من شعر ابن زيدون الطامح في الوزارة، في قرطبة ومن ثم النكوص بعد أن أصابه ما أصابه من سجن، وتزلفه إلى المعتضد حاكم إشبيلية ومن بعده ابنه المعتمد بن عباد، ونيلة الوزارة، والتزيين لابن عباد الاستيلاء على قرطبة انتقامًا من آل جهور حكام قرطبة. والمؤرخ كوك الفنلندي سطر نتفًا عن أوضاع المورسكيين في عصره، وهو نهاية القرن السادس عشر الميلادي، فقد كان نبالاً، وقائدًا للحرس الملكي للملك الإسباني فيليب الثالث أثناء رحلته الشاقة لحضور مراسم زواج ابنته التي امتدت أربعة عشر شهرًا مات خلالها مائة من حاشية الملك بسبب الأمراض المختلفة، ومن ضمن ما شاهده عرضًا مسرحيًا أمام الملك يصور حربًا بين النصارى والمورسكيين، ولإتمام المسرحية وإظهارها محاكية للواقع، تم بناء حصن ووضع عدد من المورسكيين، يقومون بالدفاع عن الحصن المشيد، في حين يتقدم النصارى بثبات، ويحاصرون الحصن، ومن ثم يقتحمونه، بعد قتلهم عددًا من المورسكيين، ومن ثم يستسلم الباقون، فيأسرونهم، ويكبلونهم، ويسوقونهم في موكب أمام الملك للوصول في نشوة عارمة حتى وصولهم إلى منزل الدوق، كما صور البعض وقد رموا بأنفسهم من شدة العناء والتعب، وأخذوا في جرهم إلى حيث يتم حجزهم، ومن ثم يتم بيع بعضهم عبيدًا، والتخلص مما لا يمكن الاستفادة منه.
وقام كوك بزيارة بلدة صغيرة اسمها مول قريبة من سرقسطة، وقد اشتهرت ببضاعة الخزف منذ الحكم الإسلامي لإسبانيا وكانت منتجاتها تصدر وتستهلك في سائر إسبانيا، وربما تصل إلى أوروبا، وقد دون كوك مشاهداته في تلك البلدة الصغيرة، فذكر أن أهلها يرفضون أكل لحم الخنزير، أو شرب النبيذ، كما أنهم يقومون بتكسير الأواني والكؤوس الخزفية التي يقدم فيها الخمر لضيوفهم النصارى، ومن الملاحظات التي دونها أهل تلك البلدة، أن أهلها مازالوا متمسكين بدينهم الإسلامي رغم تنصرهم، وأنهم يفضلون الحج إلى مكة أكثر من المدينة الإسبانية المقدسة «شنت ياقوت»، كما لاحظ أن الكنائس في البلدة مغلقة إلا في أيام الآحاد، وهي الأيام التي يغادون فيها إلى هناك لسماع القداس.
المؤسف أن هذه التقارير قد أرسلت إلى جهات اتخاذ القرار، فوافقت هوى في نفوسهم، على الرغم من أنها ربما تكون غير صحيحة في الأصل، أو أنه قد بالغ فيما كتب، فالحقيقة أن العبادات الإسلامية في الأندلس في ذلك العصر وهو نهاية القرون السادس عشر، لم تعد موجودة بشكل ظاهر، ومحدودة على بعض الأشخاص، وهي قد تشوهت بشكل كبير، ولم تعد عبادات إسلامية حقه. لم يكن هناك خطر سياسي إطلاقًا في ذلك العصر من المورسكيين، ولم يكن هناك خطر على الكاثوليكية، ولا على العادات والثقافة، لكن المشكلة التي كانت قائمة في تلك البقعة من العالم، وفي ذلك العصر، هي المشكلة ذاتها التي كانت في أزمنة مضت في ذات المكان وغيره، التي ما زالت حاضرة حتى عصرنا هذا في بعض المجتمعات، والمشكلة تكمن في نسج الأساطير الفعلية التي تدفع بالأوهام في العقول فتتربع عليها، فتحسب كل صيحة عليها، فتتولد الكراهية، وتستمر نيران الحروب، ويطهر في المشهد أفراد يستغلون الوضع لمنفعتهم، فيأججونه، وينساق الرعاع وراء كل ناعم، فيكونون وفورًا لوهم عقلي، واستغلال فردي، وترويج الإشاعات والمبالغات فيزداد الحقد. وفي الأغلب أن من يشعلها هو القادر على إطفائها إذا كان لديهم القدرة، وإلا فإن لاعبين آخرين يأخذون بزمام الأمور حتى يصل الأمر إلى منتهاه بتصالح المنتفعين بعد التوافق على أخذ كل منهم نصيبهم الذي يقدرون عليه.
وهكذا يدور الزمان، وتستمر الأحداث طالما أن الإنسان لم ينتقل من فكر المصلحة إلى فكر الأخلاق والمنفعة البشرية العامة.