د. محمد بن إبراهيم الملحم
حضرت هذا الأسبوع حفل تقاعد قيادي تعليمي زميل هو مدير عام التعليم بالأحساء، وهذا الموقف وضع أمامي حقيقة مهمة أشاركها معكم اليوم، وهي لحظة التأمل في سجل الماضي، خاصة أن الزميل الفاضل استعرض في كلمته أبرز الإنجازات التي تحققت في إدارته، مع أنه أكد في كلمته -وفقه الله- أن هذا جهد الجميع وأشاد بزملائه المساعدين ومديري الإدارات وجميع فرق العمل التي عملت معه، ولكن يظل إنجاز هذه الجماعة هو نتاج حسن إشراف وتشجيع ويد نظيفة وقلب مخلص في رغبته للعطاء، أنا واثق أن كل قيادي تربوي يفعل غالبا مثلما فعل زميلي الفاضل الذي احتفلنا بتقاعده هذا الأسبوع، فيعدد إنجازاته وحق له ذلك.. وهو تعداد يتباين بين شخص وآخر كما ونوعا، وإن النظرة إلى الوراء في مثل هذا الموقف نظرة إيجابية يتأمل فيها الناظر نتاج ما حققه في سجله، وهي تصرف له انعكاسه على الروح ليشحذها لمزيد من العطاء، كيف لا وقد تحقق من مكابدة الجهد نتاج ملموس، هذه الوقفة ألهمتني أن كل تربوي بحاجة لها، لا ليقفها يوم تقاعده أو رحيله ولكن ليقفها اليوم ولأتساءل:كم ممن لم يتقاعد بعد يفكر في تلك اللحظة؟ حتى ولو كانت بعيدة عنه حاليا حيث يتساءل بينه وبين نفسه: ترى ماذا سأقول في سرد ما قدمت وأنجزت لو وقفت هذا الموقف مستقبلا؟ ما الذي يميزني عن غيري من أقراني؟ ولا يقتصر ذلك على القيادي الأكبر في مستوى مدير تعليم أو وكيل وزارة أو حتى وزير بل هو يشمل أيضا من دونهم، فمدير الإدارة الفرعية ورئيس القسم أو المكتب أو مدير المدرسة ووكيله والمرشد الطلابي وانتهاء بالمعلم، كل من هؤلاء ينبغي أن يتساءل: ما الذي عملته مختلفا عن غيري لأقول إني قدمت شيئا مميزا أستحق به أن أحتفل بتقاعدي؟ طبعا الاحتفال بالتقاعد هو إنجاز مرور عدد من السنوات تشير إلى الاستمرار في أداء الخدمة والقيام بالواجب، وهذا حد أدنى ليقال للمتقاعد شكرا، ولنهنئه ببلوغه هذه المرحلة، ولكنه هنا احتفاء محدود ورسمي وليست به من دلالة تميزه أكثر من دلالة المفهوم البسيط للتقاعد، لكنما أن يحتفي المرء بإنجاز ويفرح بعطاءاته هو شعور مختلف تماما.. وهو ما أرمي إليه هنا.
لماذا لا نفرح ونغتبط في يوم انتهاء خدمتنا بإنجازنا الحقيقي، لماذا لا نمنح أنفسنا الفرصة للعطاء، لماذا نسمح للفكرة البالية المتمثلة في أني أعمل بقدر المطلوب فقط، لماذا لسان حال الواحد منا يقول: سوف أعمل بالحد الأدنى الذي تتطلبه مني المؤسسة التي أعمل بها ولا تطالبوني بأكثر، لا لن أبدع لن أبتكر لن أبادر فأنا لا أحبكم لأنكم لم تعطوني «كل» ما أريد وكل ما خطر على بالي لذا لن أعطيكم إلا ما تتوقعون (وربما أقل) وإذا كانت لدي إمكانات لأمور لم تتوقعوها مني فلن أقدمها لكم.. العطاء والتميز يفعله الآخرون، هؤلاء المغفلون هاهم لديكم استفيدوا منهم.. لماذا تستمر هذه المقطوعة السخيفة لدى بعضنا وينسى أو يتناسى أن هذه المعادلة في ميدان التعليم بالذات لا تصح فالعطاء هنا هو ليس للمؤسسة ذاتها في المقام الأول بل هو للطلاب للأبناء والبنات لأجيال المستقبل الذين سيبنون الوطن الذي نعيش فيه أنا وأنت وهم الذين سيخدمونك بالمستقبل ويعتنون بك (إن أنت اعتنيت بهم لا إن اعتنت بهم المؤسسة التعليمية) بل هم في الواقع أبناؤك وأحفادك!
إذا كنا نؤمن أن هذا النوع من التأمل مفيد ومهم لشحذ هممنا للعمل والإنجاز فما رأيكم بدل أن نفكر فيه يوم أن نلتحق بأول يوم في الوظيفة أن نبدأ إكسابه أبناءنا أول يوم لهم في المدرسة (في المراحل العليا المتوسطة والثانوية) ليقول الواحد منهم ماذا سأقول غدا إذا تخرجت في المرحلة الثانوية هل أقول أنا كسائر الطالب أقتصر على حفظ معلومات الكتاب أم أنا تجاوزت ذلك لأقرأ حول خارج المنهج وأبحث عن مصادر أخرى وأثري نفسي وأطور مهاراتي فأصبحت من صنف الذي يقال له «متعلم مدى الحياة» أعلم نفسي بنفسي، فمن كانت هذه نظرته عن ذاته أول يوم فإنه بدون شك سيفخر بنفسه يوم تخرجه بشكل مختلف تماما عن زملائه الطلاب.. إن المعلم الذي يتفكر ماذا سيقول عندما يترجل عن مهنته، سيعيد حساباته، هل سيقول رحلت عن التعليم بعد أن «كررت» ثلاثين أو أربعين سنة من الخدمة أمارس فيها نفس الممارسة المملة يوميا، وجزاني الله خيرا على صبري على رتابتها! أو هو سيقول لقد تخرج على يدي أجيال أتقنوا المعرفة بعد أن كانوا يستصعبوها وفهموا العلم بعد أن استغلق عليهم، ونسبوا لي الفضل في تعلمهم يوم أن رأيتهم في مواقع العمل والتخصص بعد سنوات تخرجهم! أي التعبيرين سيقوله المعلم، وأيها يريد أن يقوله، وهل رسم مستقبله ذاك ليصوغ يومه هذا؟