د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
لقد قضت مشيئة الخالق تبارك وتعالى، أن يقترن الخلق بالاختلاف والمغايرة والتنوّع، فقد جعل الخالق من البشر «شعوباً وقبائل» مختلفين ليعرف أحدهم الآخر، وقال تعالى في محكم كتابه {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} صدق الله العظيم. وفي هذا تأتي أيضاً مقولة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، الناس صنفان، أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، وهو عنوان التواصل بين الناس.
وقد أثبتت أدبيات علم الحوار أن وجود الاختلاف بين الأديان والحضارات والثقافات ليس مبرراً للعداء، من منطلق أن الاختلاف مدعاة للتكامل، ولذلك تعمل المساجد والمعابد والكنائس، على تعميق التواصل بين بني البشر، لتدفع بالناس إلى بناء حياة قوامها الحوار والتسامح والعدل والمساواة والاحترام المتبادل. حياة، كما جاء على لسان أحد المفكرين السعوديين، «تفسح المجال للآخر، وتزيد من وتيرة التواصل والتداخل والتفاعل، حياة تتسع بها صدور وثقافة وفكر «الأنا والآخر»، للمغاير وللمختلف».
وقد جاء توجّه المملكة الجاد في مجال الحوار الحضاري العالمي، في وقت أزالت ثورة الاتصالات الكثير من الحواجز بين شعوب العالم، فقربت التجمّعات الأهلية، وإزالة الفوارق بينها، ورفعت مستوى وعي الإنسان وإدراكه حول موضوع الحوار، وامتدت الفضاءات الرحبة أمام الشعوب، لارتياد آفاق جديدة للتقدّم الإنساني، ليصبح العالم بفضل انتشار العلم والمعرفة، قرية صغيرة. كما شهد العالم، في الوقت نفسه، نهضة للمواطنة العالمية بين المجتمعات والثقافات، وأصبح «الأنا والآخر» شركاء في الحياة، وسبل العيش، وتشابك المصالح، وترابط القضايا.
ودعماً لذلك التوجّه السامي النبيل، طالعنا مجلس الوزراء الموقر في أحد اجتماعاته الأسبوعية بإعلان الموافقة الكريمة على تأسيس «مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات»، وذلك بهدف «تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات ودعم العدل والسلام، والسعي لتأسيس تفاهم مشترك أفضل، حيال المحافظة على قدسية المواقع والرموز الدينية، ومعالجة التحدّيات المعاصرة في المجالات المختلفة».
ولقد كان للزيارات التي قام بها الملك عبدالله بن عبدالعزيز تغمده الله بواسع رحمته إلى المنطقة الأوروبية، أهمية كبيرة في دعم ذلك التوجّه، وأهمية تاريخية لكونها شملت مبادرته إلى الحوار بين الأديان والثقافات.
وقد تبع تلك الزيارات عدد من المؤتمرات واللقاءات، في مكة المكرمة، لدراسة الكيفية التي يمكن للعالم الإسلامي تفعيل علاقاته باتباع الأديان السماوية الأخرى، وفي مدريد بحضور أكثر من ثلاثمائة من علماء ومفكري الأديان السماوية الثلاثة، وفي نيويورك على جانب من اجتماعات الجمعية العامة السنوية للأمم المتحدة، تلا ذلك، المؤتمر الرابع في سويسرا والخامس في النمسا، الدولة التي افتتح فيها لاحقاً، أول مركز للحوار بين الأديان والثقافات في المنطقة الأوروبية.
وما نود الإشارة إليه هنا، هو أن تأسيس هذا المركز جاء بعد عمل أولي وميداني، تمثل في الزيارات الملكية ومؤتمرات الحوار، التي أكدت اهتمام المملكة بالحوار الدولي، ناهيك عن أن مشاركات المملكة في موضوع حوار الأديان، كانت قد بدأت في السبعينيات، عندما قام مجموعة من علماء المملكة، برئاسة فضيلة الشيخ محمد الحركان وزير العدل آنذاك، بزيارة حوار مع كرادلة الفاتيكان عام 1974، استجابة لدعوة من الفاتيكان.
ونرى أن المركز قد أسهم منذ تأسيسه، في خلق حراك ثقافي وتوعي وتقدّمي واع، في مجال الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، وشجّع على تبادل الخبرات والإبداع والتجارب والمبادرات والعمل المشترك، ونفذ تحت مظلته العديد من البرامج التي تساعد على تنمية وتعزيز روح العمل في خدمة قضايا الحوار. كما تبنى المركز الأعمال الثقافية ذات العلاقة، ودعم جهود الترجمة والنشر في مجال الحوار، ونظم، ولا يزال، الندوات والملتقيات والورش التثقيفية التوعوية، إضافة إلى خلق الشراكات مع المؤسسات المماثلة في العالم ليتمكّن من تحقيق رؤيته ورسالته.
فالحوار، كما جاء على لسان الدكتور أحمد زويل، في محاضرة له عن حوار الحضارات «أن بناء جسور التواصل بين الثقافات والأمم، ليس بالأمر الهيّن، وأن أحوال العالم الحديث لا تسمح لأية ثقافة أو أمة من الأمم، بأن تظل بمعزل عن الآخرين».
لقد أصبح للمملكة دور بارز في التأسيس للحوار الدولي، دور يلمسه القاصي والداني، فبعد أن تمّ التأسيس لبرنامج داخلي ناجح للحوار، هو مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، بدأ تحرّك المملكة، من خلال الزيارات والمؤتمرات التي أشرنا إليها أعلاه، لينتهي الأمر بهذا التحرّك إلى تأسيس مركز الملك عبدالله في العاصمة فيينا، وهو مشروع يستهدف بناء مسيرة التقارب في تفعيل وتعزيز الدور الذي تقوم به المؤسسات الثقافية، في تطوير الرؤى للتواصل الحضاري والحوار الثقافي.
وبهذا تكون المملكة قد ساهمت -وبشكل غير مباشر، ومن خلال الحوار بين الأديان والثقافات- ساهمت في دعم التعايش السلمي، في عالم معاصر يكتظ بالكثير من الأزمات والصراعات، الأمر الذي يتطلب أن تتبنى هذه المجتمعات المهيأة للصدام، قنوات الحوار المسؤول، على المستويين الإقليمي والدولي.
ونجده من المناسب أن نختم بالقول إن مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحوار الأديان والثقافات في النمسا، تم الإشراف على تأسيسه، وإدارته حتى اليوم، من قبل شخصية سعودية مرموقة، عرف عنها حبها للحوار واهتمامها بموضوعه في الداخل والخارج. إنه معالي الأستاذ فيصل المعمر، المستشار في الديوان الملكي، الذي أشرف أيضاً على تأسيس وإدارة مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في العاصمة الرياض. وأرى، ويتفق معي الكثيرون من ذوي الاختصاص، على أنه -وفقه الله-، صورة مشرفة لـ»الدبلوماسية السعودية الناعمة» من جهة، ولـ«دبلوماسية المواطن» من جهة أخرى.