د.شريف بن محمد الأتربي
يعد اكتشاف الكتابة وتطور أشكالها ووسائلها من أهم الخطوات التي خطاها الإنسان في انتقاله إلى الحياة المدنية، فقد مكَّنته من تدوين المعرفة ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، كما جعلت التفكير الإنساني كله عملية متصلة ومستمرة، تتفاعل فيها الأفكار والثقافات والحضارات في سبيل التقدم وخلق المستقبل الأفضل، كما يعد ظهور الكتابة الأبجدية منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد فتحاً مجيداً في تاريخ الحضارة وانتقال الإنسان إلى ميدان واسع من ميادين المعرفة.
ومع تطور وتقدم الكتابة ازداد الاهتمام بكتابة الوثائق، وتسجيل المعارف والأنظمة، وجمع الوثائق والمخطوطات في أماكن خاصة، وتنظيمها بغية تسهيل الرجوع إليها عند الضرورة، لذا كان نشوء المكتبات ضرورة ملحة أملتها الحاجة إلى حفظ السجلات والوثائق الرسمية والقانونية، وذلك منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
ومنذ فجر التاريخ والمكتبات تشغل حيزاً كبيراً من نتاج العالم الثقافي؛ فعلى مدار كل الحضارات السابقة والحالية شكلت المكتبات حاضنات للكُتاب والمؤلفين والمثقفين نقلت إليهم ومنهم المعارف والخبرات التي تم نشرها بعد ذلك، وما زال كثير منها يعد مصدراً وحيداً ومرجعاً للمعلومات في مجاله.
وتُعَدُّ دراسة تاريخ الكتاب والمكتبات دراسة لتطور الفكر الإنساني في ركوده وتألقه، لأن الكتاب هو تعبير عن هذا الفكر، حيث يعكس نتاجه ويُقدِّم أعماله، وتظل المكتبات دليلاً بارزاً على طريق هذا التطور لأن ازدهارها في عصر من العصور هو دليل على رقي هذا العصر، وانطلاقه في مجال العطاء العلمي والإبداع الثقافي.
وعلى مدار العقود الماضية ظلت المكتبات هي منارات العلم والثقافة، بل إن كثيراً من الأمم عُرفت من خلال مكتباتها التي تركتها أثراً من بعدها. ومع ظهور الإنترنت والتقنيات الحديثة وقفت المكتبات عاجزة عن مجابهة هذا التطور وانحسار الإقبال عليها وعلى الكتاب المطبوع في مقابل الكتاب الإلكتروني، وإن كان البعض يرى أن لكل منهما جمهوره، إلا أن الأجيال الجديدة بدأت في العزوف عن التردد على المكتبات رويداً رويداً، وبدا الحصول على المعرفة بالنسبة لها عن طريق شبكة الإنترنت والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي أسهل وأيسر من الجلوس في قاعات المعرفة في المكتبات بأنواعها كافة.
ورغم كل ما تعانيه المكتبات من مشكلات بدايةً من العزوف عنها وفقر الإنتاج الفكري رغم كثرة عدده، إلا أن محتواه لم يعد جاذباً للقراء، خاصة أن التقنيات الحديثة يسرت نسخ المعلومات من مختلف أنحاء العالم بسرعة كبيرة جداً، مما أثر أيضاً على مخرجات البحث العلمي وأصبح تكرار موضوع البحث مع تغيير أحد مجالاته أسهل للباحثين من الغوص في أعماق المعرفة والبحث عن موضوعات جديدة.
ومع إصدار قانون الهيئات في المملكة وخاصة هيئة المكتبات، أعتقد أن الضغوط التي عانت المكتبات منها ستقل تدريجياً، وأن وجود سمو الأمير بدر بن عبدالله الفرحان -يحفظه الله- على رأس وزارة الثقافة بما عرف عنه من إنجازات، سيكون -بإذن الله- داعماً لهذه الهيئة في تطوير المكتبات وتحقيق الاستفادة القصوى مما تحويه من كنوز المعرفة.