إبراهيم أبو عواد
1
إحساس الإنسان بالتغيّرات الاجتماعية لَيس خيالاتٍ هُلامية، وإنَّما هُو نظام فكري مُتماسك يتكوَّن مِن الصُّوَر الذهنية الناتجة عن الواقع، ومَصادرِ تفسير هذا الواقع. ولا يُمكن فصل الصورة الذهنية التي تتشكَّل في وَعْي الإنسان عن إطارها الواقعي، لأنَّ الواقع هو المنظومة المعرفية المركزية التي تُقدِّم التفسيرَ المنطقي للأحداث، كما أن الواقع هو المرجعية لتحليل العناصر المثالية والمادية في العلاقات الاجتماعية، وهذا يستلزم بالضرورة تفكيك عناصر التاريخ كما هو على أرض الواقع، وليس كما نُحِبُّ أن يَكون، وليس كما نتخيَّله في الأذهان. والتاريخُ الحقيقيُّ هو الذي حدث على أرض الواقع، وليس الذي تَمَّت أدلجته وتَسييسه في الأذهان تحت ضغط السُّلطات الأبوية، التي تَخترع المُسلَّمات الافتراضية لتحقيق مصالح شخصية ومنافع ذاتية.
2
مَن أُصِيب بالعطش في الصحراء، عليه أن يَبحث عن المياه الجوفية داخل الأرض، ولا يُضيِّع وقته في مُطاردة السراب فوق الأرض. ومَن أرادَ التفسيرَ المنطقي للأحداث، عليه أن يَبحث عن العلاقات الاجتماعية داخل تاريخ الأمم والشعوب، ولا يُضيِّع وقته في مُطاردة التفسيرات الجاهزة، والتأويلات المُعَدَّة مُسْبَقًا، والمُسلَّمات المُكرَّسة بفِعل التَّكرار الخاضع لمنطق القُوَّة لا قُوَّة المنطق.
3
التفسيرُ الحقيقي للتاريخ يُشبِه الطعامَ الثقيل الذي يُطبَخ على نار هادئة، ويَستغرق وقتًا طويلًا للنُّضج، ولا يُمكن أن يكون وجبةً سريعةً، لأن عملية التفسير فِعل تراكمي تحليلي يقوم على تفكيك العناصر ثُمَّ تجميعها، وترتيبها بشكل منطقي تسلسلي، وهذا يستغرق وقتًا طويلًا، ويتطلَّب مجهودًا فكريًّا كبيرًا. وبما أن أغلب الناس يَميلون إلى الاستسهلال، ويَتعبون مِن التفكير العميق، ولا يُريدون إرهاق أنفسهم في عمليات عقلية مُعقَّدة، فإنَّهُم يَقبَلون بالشيء المُتَدَاوَل دُون فَحْصه، ويتمسَّكون بالحُلول الجاهزة دُون اختبارها، ويَقبَلون بالأمر الواقع دُون النظر إلى ما وراء الواقع، ويَلتزمون بالتفسيرات الشائعة دُون عرضها على قواعد المنهج العِلمي في البحث والاستدلال . إنَّهُم مُعجَبون بجَمَال الشَّجرة التي تُغطِّي الغابة، ولا يُريدون اقتحامَ الغابة، ومعرفة أشجارها. وهُم بذلك يُشبِهون الأشخاصَ الذين يتناولون الوجبات السريعة، ويذهبون إلى النوم، ولا يُريدون إضاعة وقتهم في المطبخ لتحضير الطعام .
4
التعاملُ مع التاريخ يعني التعامل مع ثلاثة سِياقات معرفية متشابكة: أ - التاريخ في الواقع (التاريخ الحقيقي). ب - التاريخ في الذهن (التاريخ المُتَخَيَّل). ج - تفسير التاريخ (التاريخ المُختبئ وراء التاريخ). ومِن أجل السيطرة على هذه السِّياقات الثلاثة، وكشفِ أبعادها، وتحليلِ مضامينها، ينبغي إجراء عملية تَنقيب في الأنساق الاجتماعية، وهذه العملية هي الضمانة الأكيدة للوصول إلى حقيقةِ المشاعر الإنسانية، وماهيةِ السلوكيات الفكرية ضِمن الزمانِ والمكانِ. ولا معنى للتاريخ إلا مِن خلال إجراء حفريات واسعة في المُكوِّنات المعرفية للحضارة بشكل عام، والمُكوِّناتِ الإنسانية للمجتمع بشكل خاص. ولا شرعية لتفسير التاريخ إذا لم يتم التفتيش عن الإنسان داخل الإنسان، والبحث عن التاريخ السِّري للأحداث المَوجود خَلف الكواليس. وإذا لم يتم الوصول إلى الوجه، فلا فائدة مِن معرفة الأقنعة.