د. حامد بن مالح الشمري
التقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم هو نتيجة جهد علمي تراكمي منظم ومخطط له عبر مئات السنين، شارك في بنائه العلماء والباحثون والمبدعون من خلال البحث العلمي الموجه لخدمة البشرية وعلى وجه الخصوص لخدمة شعوب تلك الدول في المجالات كافة، العلماء والمبدعون والباحثون هم رصيد الأمة وهم الأسلحة الحقيقية التي تحارب بها لمواجهة معارك العصر الضارية في المجالات الاقتصادية والسياسية والصناعية، والبحث العلمي هو واحد من أهم الأدوات المحققة للتقدم والنماء في المجالات كافة، والمتابع يعرف ما ينفق على البحث العلمي في أمريكا وأوروبا واليابان من أموال طائلة، ويتم استقطاب أفضل العقول البشرية ومن أفضل الخبرات في مختلف التخصصات العلمية والفكرية والتطبيقية, بل إن مراكز الأبحاث في تلك الدول تعمل على اكتشاف المبدعين من خلال آليات عمل مدروسة تأخذ عدة أشكال منها: الاتصال بالمدارس والجامعات والعمل على تقديم المساعدات المالية للطلاب بهدف إغرائهم للعمل في تلك المراكز البحثية وكذلك تنظيم الزيارات واللقاءات لطلاب المدارس لمراكز البحوث والابتكار التقني والصناعي, ولهذا فإن مقومات النجاح للعمل البحثي تكمن في توفر الإرادة الحقيقية للحاق بركب التقدم العلمي في المجالات كافة، وكذلك الدعم السخي المالي والمعنوي اللامحدود لمراكز البحوث والإنفاق بسخاء على مشاريع البحوث وكذلك من الأهمية بمكان توفر الكوادر البشرية القادرة على البحث الحريصة على تطوير قدراتها البحثية من خلال إتاحة الفرصة لها للتدريب والاحتكاك الخارجي والاطلاع على تجارب الآخرين وأبحاثهم، والعمل الفعلي بنتائج الأبحاث المقدمة من المراكز البحثية، وبدون هذه العناصر فإنه لا جدوى من وجود أعداد كبيرة من مراكز البحوث في أجهزتنا الحكومية والجامعات والقطاع الخاص وهي في واقعها الحالي غير قادرة على القيام بواجباتها ومهامها، وتمثل عبئاً على أجهزة الدولة.
واقع مراكز البحوث في المملكة بحاجة إلى إعادة نظر وتقييم يتبعه تنظيم دقيق، ذلك أن العصر الذي نعيشه يحتم علينا أن نقف موقف الند، وأن ننافس الآخرين بقوة في المجالات العلمية والصناعية والابتكارية، مراكز البحوث لدينا بحاجة لإعادة نظر من حيث ارتباطها الإداري والتنظيمي ودورها في التنمية والاقتصاد ومستوى مساهمتها في معالجة وخدمة قضايا المجتمع ومواكبة التغيرات المتلاحقة التي يعيشها العالم في مجالات عدة.
مراكزنا البحثية بحاجة لأن تكون أكثر انفتاحاً على العالم ومتغيراته وتحدياته، مما يتطلب استقطاب أفضل العقول البشرية لمواجهة متطلبات التطوير وتحديات العصر الذي نعيشه، بحاجة لتبني آليات عمل أكثر مرونة وتفاعلاً مع مشاكلنا وقضايانا, المملكة -وللّه الحمد- تزخر بالعديد من مراكز ومعاهد البحوث، وأيضاً ما يتوفر لدينا من كوادر مؤهلة في التخصصات كافة، ولكن المشكلة فيما تواجهه هذه المراكز من جمود ومحدودات في أنشطتها البحثية والمجالات التي تخدمها، وضعف ما يخصص لها من موارد مالية، وكذلك عدم تبني وتطبيق نتائج ما تقوم به من أبحاث من قبل المجتمع بقطاعيه الحكومي والخاص.
الكثير من المراكز تفتقر إلى مقومات النجاح مما جعلها ضعيفة ومشلولة، لا تستطيع تحقيق الحد الأدنى من متطلبات التنمية الصناعية الحقيقية المبنية على نتائج البحث العلمي، كما أن التعاون والتنسيق فيما بينها ضعيف، والكل يعمل في معزل عن الآخر، ولا يوجد تعاون لتبادل المعلومات والخبرات، وتفتقر لوضوح الرؤية، وتحديد الأولويات، وتوحيد الجهود لخدمة قضايا المجتمع والوطن، وربما تجد أن الجهاز يصرف أموالاً لصالح بحث أو استشارة وفي نفس الوقت مركز البحوث يكرر نفس الأسلوب أو تمنح الفرصة لمركز استشاري داخلي أو خارجي للقيام بالدراسات المطلوبة, وخلاصة الأمر أن واقع هذه المراكز البحثية -باستثناء عدد محدود من المعاهد والمراكز البحثية الجيدة- ضعيف وتمثل عبئاً في واقعها الحالي وهو واقع مؤلم لأسباب عدة، والملاحظ أيضاً أن جزءاً كبيراً من الموارد المالية المخصصة لمراكز البحوث والدراسات يتم صرفه لشراء أجهزة ومعدات غالية الثمن ولا يستفاد منها، وفي الغالب لا يحتاج العمل لها كثيراً، وربما يطغى على هذا الإجراء المظهر والدعاية، فمن خلال لغة الأرقام يتضح البون الشاسع بين ما ينفق على مشاريع الأبحاث في الدول المتقدمة ودول العالم الثالث.
ولعله من المناسب إنشاء هيئة تطوير البحوث العلمية والصناعية تستقطب العلماء والباحثين المؤهلين والمتخصصين ولديهم الحس البحثي وتحسس المشكلات، وتسعى هذه الهيئة إلى الإسهام الفعال في ربط مراكز البحوث والإشراف عليها ورفع درجة التعاون والتنسيق فيما بينها، وكذلك رفع كفاية العمل البحثي العلمي وزيادة الاهتمام بالبحوث والدراسات الابتكارية والتطويرية والتشجيع على المبادرات في تقديم البحوث التي تعالج القضايا العلمية والاقتصادية والصناعية وغيرها، وكذلك زيادة درجة التعاون بين الهيئة والقطاع الحكومي والخاص، ولعل تفعيل التوصيات الصادرة عن البحوث والدراسات والمؤتمرات يندرج تحت اهتمامات هذه الهيئة، لأنه ثبت أن الكثير من التوصيات الجيدة لا تجد طريقها نحو الدراسة والتطبيق من قِبل الجهات ذات العلاقة، وهذا فيه هدر كبير للجهود المبذولة وقتل للطموحات، ولا بد أن تكون مراكز البحوث في الجامعات منفتحة على المجتمع والشركات لمنفعة الطرفين، وذلك للاستفادة من تمويل مشاريع البحوث من هذه الشركات وحل مشكلات المجتمع, ونحن نعرف كم تنفق الشركات الأمريكية والأوروبية على البحث العلمي، والذي يقدر بآلاف البلايين وأيضاً ما تجنيه مراكز البحوث من أموال طائلة نظير ما تقدمه من أبحاث لصالح كبريات الشركات والمصانع, مركز، بالإضافة إلى الاستفادة من العلماء والباحثين في الجامعات وغيرها للقيام على البحث العلمي المنظم في المجالات كافة، وفق المعايير العلمية التي تكفل الجودة والثقة بنتائج البحوث المقدمة ونضمن تطبيقها والاستفادة منها.