سعد بن دخيل الدخيل
يقول (Warren Bennis) «القيادة هي القدرة على ترجمة الرؤية إلى واقع ملموس»، وعلق د. عماد طوال بقوله: القادة هم أولئك الأفراد الذين يسعون إلى إلهام الناس والتأثير بهم من خلال رؤيتهم الخاصة ومهارات شخصيتهم الكاريزمية، وبالتالي فإن القائد المُلهِم هو القادر على استخدام رؤيته في تحفيز الأفراد لتحقيق الأهداف التنظيمية، وهو من يمتلك الجرأة اللازمة لاتخاذ القرارات المصيرية لأنه يؤمن بما يعمل ويعمل بما يؤمن به، وهو المبادر الصادق والجريء الذي يتخذ القرارات بذكاء، هذا النوع من القادة يتميز بالإبداع فيبدأ بالقليل للوصول إلى الكثير، إنه على استعداد للمغامرة على أن تكون هذه المغامرة مدروسة بدقة، والقائد هو من يمتلك الرؤى التي تمكنه من أخذ زمام المبادرة في الوقت والظرف المناسب.
حين كنت على مقاعد الدراسات العليا لنيل الماجستير في الإدارة كانت تقفز شخصية المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله رحمة واسعة- بين عيني وتفرض نفسها حين أفكر في قادة الدنيا الذين يتحدثون أو يطبقون نظريات الإدارة والقيادة، كون شخصية المؤسس -طيب الله ثراه- شخصية عظيمة فذة تترجم رؤيتها لواقع ملموس فهو الذي يمتلك الجرأة لاتخاذ قرارات مصيرية في حياته.
يقول صاحب الوجيز: «وروى خالد الفرج أن الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم االبحرين أراد أن يلاطف (الفتى) عبدالعزيز فسأله: قطر أحسن أم البحرين؟ فأجابه عبدالعزيز على الفور: الرياض أحسن منهما... فقال: سيكون لهذا الغلام شأن».. كان المؤسس حريصاً على التخطيط وهذه أبرز سمات القائد.. يقول د. فهد السماري في كتابه الملك عبدالعزيز الشخصية والقيادة : «لقد أدرك الملك عبدالعزيز مبكراً أهمية التخطيط في سلامة العمل وتحقيق الأهداف المرسومة، فهو يقول (أي الملك عبدالعزيز): «أنا أتأخر وأتقدم بقدر الحاجة ولا أعمل عملاً أخرب به بلادي، وإذا جاء وقت العمل واللقاء فالعار على الذي يتأخر»، وسيجد المتأمل في سيرة الملك عبدالعزيز البرهان جلياً على حرصه على التخطيط في الملحمة الكبرى (فتح الرياض)».
واليوم تبرز شخصية غير عادية تملك كاريزما القيادة والتأثير إنه ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان فقد قاد الأمة السعودية وجعلها في سنوات معدودة تفعل الأشياء العظيمة، يقول رونالد ريغان «القائد العظيم ليس بالضرورة أن يكون الشخص الذي يقوم بأشياء عظيمة.. بل إنه هو الشخص الذي يجعل الناس يفعلون أعظم الأشياء» نعم لقد فعل العظيم وجعلنا نفعل الأشياء العظيمة فتصرفات ابن سلمان تلهم الآخرين ليحلموا أكثر، ويتعلموا ويفعلوا المزيد ويصبحوا أفضل قيمةً حتى وصفهم بقوله «أعيش بين شعب عظيم وهمة السعوديين كجبل طويق»، جاء هذا الشاب المتوشح طموحاً ليقسم بين يدي المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين تم تعيينه وزيراً للدولة عضو مجلس الوزراء، والملك عبدالله كأنه يرى شخصية والده المؤسس ولسان حاله يقول لا حاجة للقسم، فنحن نرى التحدي والإصرار في عينيك والإخلاص في أفعالك وأعمالك لذا قال: «الله يوفقك لخدمة دينك ووطنك وأمتك العربية والإسلامية وإن شاء الله إنك تحكم أرضك».. وحقيقة أقول إن من يتتبع سيرة المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن كأنه يتتبع سيرة حفيده محمد بن سلمان بن عبدالعزيز فلا تجد الفرق بين الشخصيتين، يقول الشاعر عبدالله الجودي:
يا ملهم الأجيال في خطوتك أميال
والله صدق من قال انك مثل جدك
بل إن بين المؤسس وحفيده عاملاً مشتركاً وحدثاً كبيراً لا يمكن تجاوزه وله من الأهمية الشيء الكثيروهو مدار حديثنا اليوم في مجالسنا وإعلامنا، بل واهتمام العالم بأسره، إنها الجافورة التي غيرت خارطة العالم فمن فوق رمالها انطلق المؤسس ليفتح الرياض ذلك الفتح الذي عد أبرز الأحداث التاريخية التي غيرت مجرى تاريخ الجزيرة العربية في العصر الحديث، فقد كان الملك عبدالعزيز في الكويت كما قال خير الدين الزركلي:
العينُ بعدَ فِراقها الوَطَنا
لا ساكِنًا ألِفَت ولا سَكَنا
فهو يقلب بصره في السماء ينشد الشمس حين تشرق وتغرب ويسأل نجوم الليل عن دياره وديار آبائه وأجداده ويجد رائحة نجد في كل رياح تهب من الجنوب، ومن شغفه بها يقول حافظ وهبه :»كان عبدالعزيز يميل إلى سماع تاريخ جده الإمام فيصل، من بعض الشيوخ المسنين في الكويت».
بدأت أحداث استرداد (الرياض) بعد عودة الملك عبدالعزيز من محاولته الأولى سنة 1318هـ عندما سعى لإقناع والده الإمام عبدالرحمن بأن يأذن له في محاولة أخرى لاسترداد الرياض، ويروي خير الدين الزركلي عن يوسف ياسين -مستشار الملك الخاص- نقلاً عن الملك عبدالعزيز نفسه وقائع جلسة تمت بينه وبين والده في الكويت وصفها الزركلي بالجلسة «الثائرة» يقول فيها إن الملك عبدالعزيز «لقي أباه ساعة على انفراد في مكان خالٍ، خارج المدينة، فاستوقفه. فقال: ما تريد؟.. قال: أريد الحديث. فقال: لا أريده! فأصر على أبيه وألقى عباءته على الأرض وقال: -وعُروقه تنتفض- أجلس يا عبدالرحمن. عبدالعزيز مثال الأدب مع أبيه، يخاطبه بهذه اللهجة، وباسمه المجرد!!! إذاً هناك أمر ولا ريب. جلس الإمام عبدالرحمن وأمامه الشعلة المتوقدة، ابنه عبدالعزيز، يقول: أنت بين خطتين، إما أن تأمر أحد عبيدك بانتزاع رأسي من بين كتفي فأستريح من هذه الحياة، وإما أن تنهض من توك فلا تخرج من منزل شيخ الكويت إلا بوعد في تسهيل خروجي للقتال في بطن نجد، كانت هذه الجلسة «الثائرة» بين الابن وأبيه بعد وساطة لم يذكرها إلى الآن أحد من مؤرخي عبدالعزيز هي وساطة والدته لدى والده، قال عبدالعزيز: شعرت وأنا ألح على أمي في أن يأذن لي أبي بالحركة، أنها كانت بين عاملين، عامل حب الابن والإشفاق عليه من أن يزج نفسه في المهالك، وعامل مرضاة «عنفوان» الفتى وفتح الباب له على مصراعيه. وافق الإمام عبدالرحمن متململاً، بعد تصميم عبدالعزيز».
يقول الشاعر محمد العبدالله العوني في قصيدته التي مدح بها الملك عبدالعزيز بمناسبة استرداد الرياض عندما شبهه بالنادر من الصقور الذي لا يرده الحر الشديد (القيظ) عن هجومه على خصومه:
نادر حرار يوم تمت سِبّقه
هام الهدد بالقيظ قبل اوجابها
رُصدت تحركات الملك عبدالعزيز من الكويت حتى استرداد الرياض (حسب الدراسة: الطريق إلى الرياض)، وما واكبها من تطورات وأحداث وفق أربع مراحل فالمرحلة الأولى: تحرك الملك عبدالعزيز من الكويت إلى وادي المياه بمنطقة شمال الأحساء. والمرحلة الثانية: تكوين الأتباع، والقيام ببعض الغارات على القبائل الموالية لابن رشيد. والثالثة: التخفي عن الأنظار في رمال الجافورة. وذلك لمدة خمسين يوماً، والجافورة صحراء كبيرة تمتد من العقير وأطراف الأحساء الجنوبية شمالاً، حتى تتصل بالربع الخالي جنوبًا، والنازل في هذه المنطقة مفقود يصعب الاهتداء إليه، إلا أن الفترة التي قضاها الملك عبدالعزيز مع والده في يبرين قبيل انتقالهم إلى الكويت، حيث آلف البادية وتدرب على الصيد في تلك الفيافي وتدرب على حياة البدو في تلك الأنحاء حتى اطمأن أن ذلك الموقع مخبأ آمن له ومن معه، وهي التي أشار إليها الملك عبدالعزيز وهو يروي للأستاذ فؤاد حمزة قصة استرداد الرياض بقوله: «أخذنا أرزاقًا وسرنا وسط الربع الخالي، ولم يدر أحد عنا أين كنا، فجلسنا شعبان بطوله، إلى عشرين رمضان». والمرحلة الرابعة: التحرك من الجافورة إلى الرياض عبر طرق ثانوية بحيث لا يبتعد كثيراً عن موارد المياه.
وكان الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل قد تفقد رجاله قبل أن ينطلق في 21 رمضان سنة 1319هـ وجمعهم حوله وقرأ عليهم كتاب أبيه، ثم قال: «لا أزيدكم علماً بما نحن فيه. هذا كتاب والدي يدعونا للعودة إلى الكويت، قرأته عليكم، ومبارك ينصحنا بالعودة، انتم أحرار فيما تختارونه لأنفسكم. أما أنا فلن أعرض نفسي لأكون موضع سخرية في أزقة الكويت. ومن أراد الراحة ولقاء أهله والنوم والشبع فإلى يساري... إلى يساري»، فتواثب الأربعون بل الستون إلى يمينه وأدركتهم عزة الأنفة فاستلوا سيوفهم وصاحوا مقسمين على أن يصحبوه إلى النهاية. والتفت إلى رسول أبيه وقال له: «سلم على الإمام وخبره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا وقل له: موعدنا إن شاء الله في الرياض».
هذا هو القائد الذي فتح الرياض فأضفى السكينة على حياة الناس والتفاتهم لأعمالهم وحرفهم وأرزاقهم، لقد كان بحق من أهم اللبنات الأولى لتأسيس وبناء الدولة السعودية الحديثة الناهضة.
من رمال الجافورة انطلقت السعودية الحديثة بعزم الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن ومنها أيضاً انطلق الحفيد باكتشاف حقل الغاز العملاق ليعزز مكانة المملكة العالمية في قطاع الطاقة ويقدمها عملاقاً اقتصادياً ليس في النفط فحسب، بل والغاز أيضاً ويجعلها من أهم المؤثرين في قطاع الطاقة والاقتصاد العالمي. كما جعل لهذا الاكتشاف بعداً سياسياً لا يقل أهمية عن البعد الاقتصادي، إذ تلعب القدرات الاقتصادية دوراً رئيسياً في التأثير السياسي العالمي. فهذا الحقل العملاق من أكبر حقول الغاز غير المصاحب الذي تم اكتشافه بطول 170 كيلومتراً وعرض 100 كيلومتر، ويقدر حجم موارد الغاز في مكمنه بنحو 200 تريليون قدم مكعب من الغاز الرطب الذي يحتوي على سوائل الغاز في الصناعات البتروكيماوية والمكثفات ذات القيمة العالية، ليخصص عوائده للقطاعات المحلية في الصناعة والكهرباء وتحلية المياه والتعدين وغيرها ويؤدي إلى توفير فرص عمل مباشرة وغير مباشرة للمواطنين في تلك القطاعات لمواكبة معدلات النمو الطموحة وفق رؤية 2030.
وكما بدأ عبدالعزيز مسيرة فتح الرياض برسالة لأتباعه من على رمال الجافورة فقد بدأ الحفيد رؤيته وانطلاقته بالبلاد في فضاءات المستقبل الأفضل برسالة للشعب السعودي العظيم حيث قال: «يسرني أن أقدم لكم رؤية الحاضر للمستقبل، التي نريد أن نبدأ العمل بها اليوم للغد، بحيث تعبّر عن طموحاتنا جميعاً وتعكس قدرات بلدنا»، وهذه الرسالة تحمل مضامين كبرى تبرز كاريزما القيادة لدى الأمير الشاب ومنها أنه يفخر بخدمة الوطن وأهله بكلمة يسرني، ومنها حرصه على حاضر ومستقبل شعب المملكة العربية السعودية، ومن المضامين أنه أشرك الشعب في تنفيذها حين قال «نريد أن نبدأ العمل عليها» ولم يتبنَ التنفيذ لوحده أو لفئة مخصوصة، بل جعل هذه الرؤية طموح شعب يؤمن هو بقدراته لتنفيذها وهذا ديدن القادة كما يقول وارن بينيس: «القائد هو من يتلمس أرواح أتباعه ويدرك قدراتهم المميزة، باختصار هو ذلك الشخص الذي يتمتع بالرؤية والتفكير بشكل إستراتيجي وخارج الصندوق».
ولقد أبهر ولي العهد العالم كما أبهرهم جده المؤسس فهذا الرئيس الروسي فلادمير بوتين يقول: «إنه شخص مليء بالحيوية، ويتمتع بنشاط غير مسبوق، ولديه معرفة تامة بكيفية تحقيق أهدافه التي سيعبر بها بالمملكة لمصاف أكثر الدول تقدماً»، وهذا الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما في إحدى لقاءاته التلفزيونية يقول: «أتيحت لنا الفرصة للعمل عن قرب مع وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وأثار أعجابنا بكونه رجلاً واسع الاطلاع والمعرفة جداً وذكياً جداً وحكيماً تخطى سنيناً من عمره». كما أبدى صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل فخره بابن عمه الأمير محمد حيث قال: «أفخر بالأمير محمد بن سلمان كواحدٍ من آل سعود، وأفخر به كذلك كسعودي، وأفخر به كعربي، وأفخر به كمسلم».
وكما لاقى المؤسس -رحمه الله- الاهتمام من وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الأجنبية والمستشرقين، فقد اهتمت الوكالات العالمية بشخصية ولي العهد وأجرت معه العديد من المقابلات لتتعرف على حفيد المؤسس وتغوص في فكره المتقد تطوراً وتستلهم للأجيال من صفاته وكاريزما حضوره.
لقد ساهمت رمال الجافورة في انطلاقتين نوعيتين في تاريخ المملكة العربية السعودية، وكان القاسم المشترك الشخصية القيادية المتحمسة ذات الرؤية الواضحة والشخصية المستقيمة المتعلمة ذات القلب الشجاع.