د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ نهاية 2001 والدول الناطقة باللغة العربية تتعرض إلى استهداف ممنهج لسيادتها ووحدة أراضيها وأنظمة حكمها. ويبدو أن المرض الذي تفشى في أرجائها سواء في مشرقها أو مغربها أسال لعاب المتربصين بها لاقتناص الفرص والظفر بما يمكن من أراضيها أو خيراتها، والإمساك بتلابيب مستقبلها. الاستعمار يعود بمظاهر جديدة، وكأن من بيده الأمر يقول إن شعوب العالم أخذت فرصة كافية بعد الحرب العالمية الثانية لتقرر مصيرها، ولكن هؤلاء العرب ليسوا أهلاً للمسؤولية.
الحلم العربي الذي تشكل في بداية القرن العشرين تماسك حتى استقر على 22 بلدًا ناطقًا باللغة العربية، لكنه توقف عن النمو الطبيعي ليتفرغ لمحاربة بعضه بعضًا. صدام في مقابل الأسد حافظ، والقذافي في مقابل الأنظمة الملكية، وحارب شمال اليمن جنوبه حتى توحدا، والجزائر في مقابل المغرب، وشمال السودان في مقابل جنوبه، وقس على ذلك الصومال وسوريا ولبنان، بل حتى فلسطين المحتلة أصابتها متلازمة ثنائية القطب فكانت فتح في مقابل حماس. وحتى دول الخليج وهي الأكثر انسجامًا كانت قطر حالة شاذة في الخروج عن الإجماع، وسرعان ما تحول الحلم العربي إلى كابوس جثم على صدر التنمية والاستقرار والتقدم.
الدول المؤثرة تحملت النزق العربي عندما كان وبالاً علينا، لكنها منذ سبتمبر 2001م أدركت أن الفشل العربي بدأ يضرب بشروره الدول متعديًا ضررها حدودها الجغرافية إلى غيرها، وهنا بدأت المخططات للتخلص مما اعتبروه ورمًا خبيثًا وجبت معالجته أو اجتثاثه. هذا التوصيف أو التشخيص التسطيحي للمسألة العربية لا يبتعد كثيرًا عن الواقع، ويمكن أن يؤخذ أداة لتشريح وضع الدول الناطقة باللغة العربية واستشراف مستقبلها.
ليس ممكنًا فهم ما يجري في إدلب وليبيا بعيدًا عن هذه الرواية، فتركيا موجودة على أرض عربية تشترك فيها مع روسيا وإيران أمريكا وبعض الطلعات الإسرائيلية. كما أن تركيا موجودة في قطر وفي ليبيا، وإيران موجودة في اليمن ولبنان والعراق إضافة إلى سوريا. كما أن روسيا موجودة أيضًا في ليبيا إلى جانب تركيا، وهناك دعوة رسمية ليبية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لبناء قاعدة عسكرية في ذلك البلد المنكوب منذ عام 2011م. إيران تنطلق من فهم إسلامي غير صحيح للحكم، فهي ترى عن جهل أنها معنية بتطبيق الحاكمية الإلهية في البلدان الإسلامية الجارة، ولم تجد أضعف من الدول الناطقة بالعربية لتبدأ بها، وتركيا تنطلق من إرث تاريخي تراه حقًا لها في استعادة أمجادها العثمانية، أما أوروبا فتظن أنها معرضة أكثر من غيرها لمضاعفات الانفلات الأمني والفشل التنموي في دول الجوار الناطقة باللغة العربية، وروسيا تعتقد أنها أمام فرصة تاريخية لتضع لنفسها مكانًا في قلب المصالح الأمريكية والغربية لتحمي بيضتها من أعدائها التقليديين.
لقد عملت بريطانيا جهدها في تجميع العرب من أجل السيطرة عليهم قبل تسليم كامل إرثها الاستعماري إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبدون أدنى شك استفادت المنطقة من الحضور الأمريكي، وبخاصة دول الخليج. ولكن أمريكا اليوم غيرها بالأمس. وبذلك يصعب القول إنها متمسكة بنفوذها كما كانت عليه قبل عشر سنوات. لقد تحولت أمريكا الآن من مستوردة للنفط إلى مصدر له، كما أن إسرائيل لم تعد جنينًا يحتاج الحاضنة، وإنما شبت عن الطوق وأصبحت تشكّل حلافاتها مع دول المنطقة في وضح النهار. يضاف إلى ذلك ما ابتدعه الرئيس الأمريكي من تحويل العلاقات الإستراتيجية التي تقوم على المبادئ المشتركة إلى أخرى مبنية على المقايضة، والدفع في مقابل الخدمات، وكأن أمريكا قد تحولت إلى شركة خدمات أمنية.
كل هذه المقدمات الواضحات يمكن خلطها مع بعض من أجل توقع شكل المنطقة بعد عدة سنوات. لا أقول إن التغيير سيتوقف على الدول الناطقة باللغة العربية فحسب، ولكن أقول إنها معرضة أكثر من غيرها في إعادة رسم الحدود، ولا يجب أن يغيب عن البال بأن إيران وروسيا وتركيا وإسرائيل هي الخطر المحدق بالدول الناطقة بالعربية، غير أنها لا تجرؤ على التحرك بمفردها دون تفاهم أشمل مع أوروبا وأمريكا.