د.عبد الرحمن الحبيب
«أحصى غوردن ألبورت 18000 كلمة لوصف الإنسان في اللغة الإنجليزية! هل هذه الألوف من الكلمات (التي ربما تكون أكثر في اللغة العربية) تعني وجود آلاف السمات الشخصية؟ قطعًا لا، إذ إن الشخَّاص بجامعة هارفرد ألبورت نفسه شدَّد على أهمية اختصارها وتجميع المتشابه منها وتحليلها لغويًا وإحصائيًا.. بغية الوصول إلى أكثر السمات المشتركة أهمية وثباتًا».
كان هذا مدخلاً للباب الأخير من كتاب «نحو دراسة الشخصية المحلية» لأستاذ التنظيم الاجتماعي د. عبدالله البريدي، الذي تم تناوله بالمقالين السابقين. هذا الباب خُصص للبحث الكمي متضمنًا تحليلاً إحصائيًا حول اتجاهات المناطق بالمملكة حيال الشخصية القصيمية، إضافة للاتجاهات وفق التأهيل العلمي والحالة الاقتصادية لأفراد العينة.
أظهر التحليل الإحصائي المتعلق بالمنطقة الجغرافية أن التقييم السلبي (3.75) أعلى قليلاً من نظيره الإيجابي (3.58). أما من ناحية انطباق العوامل الخمسة الكبرى للشخصية التي تتبناها أغلب الدراسات، وهي: الانبساطية، التفاني، العصابية، الانفتاح، الوداعة، فإنها بصفة عامة ومن وجهة نظر العينة، انطبقت كلها بدرجة متوسطة باستثناء الوداعة كانت بدرجة ضعيفة.
إذا اكتفينا بهذه النتيجة الخاطفة التي أظهرت تقارب التقييم السلبي مع الإيجابي، وحصول أغلب العوامل الكبرى للشخصية على درجة متوسطة، فقد نستنتج أن المحصلة فضفاضة؛ أو كما قال الدكتور عبدالله الغذامي: «لو جرب الدكتور عبدالله البريدي أن يوجه الأسئلة نفسها لعينات من مناطق أخرى...!!! أتوقعه سيسمع أجوبة متشابهة كمرايا متجاورة» في معرض تعليقه على ورقة بحثية للبريدي كانت نواة أولى لهذا الكتاب. أما رد البريدي، فهو «بأن دراسات عديدة تؤكد وجود فروق في بعض السمات الشخصية حتى لو كانت بين بلدات صغيرة متجاورة، وهو ما يجعلنا نقرر مطمئنين بوجود شخصية محلية صغيرة..» مع تأكيد البريدي القطعي على «وجود قواسم مشتركة فيما بين البلدات المتجاورة لتشاركها ثقافة وطنية أو مجتمعية واحدة..»
جاء هذا التعليق والرد في سياق فصل خُصص لمنهجية الكتاب ومبررات دراسة الشخصية المحلية، طارحًا سؤالاً: هل تختلف الشخصيات المحلية فيما بينها؟ يقول الكاتب: لو افترضنا أن بلدتين متجاورتين تتقاسمان خمس صفات، فهذا لا يعني تشابه السمات بينهما، لسببين: الأول، أن بلدة قد تتوافر على سمة داخل هذه الصفة لا تتوافر عليها البلدة الأخرى.. فمثلاً، صفة الكرم قد تكون بالأولى بداعي الفضول الاجتماعي (سمة فرعية) مع الغرباء، بينما بالأخرى تضع كرمها بطيب خاطر. السبب الثاني، هو اختلاف وزن (درجة) السمة: بين الكرم والإسراف.. بين الشجاعة والتهور..
هذه المبررات أتت في سياق مشروعية الكتاب، ليمضي الكاتب متسائلاً: لماذا ندرس الشخصية المحلية؟ وما فائدة دراستها في منطقة داخل دولة معينة؟ ويجيب بأن هناك أسبابًا وحيثيات، أهمها التعرف على أنماط الشخصية بمنطقة معينة يعين على تحسين الفهم المجتمعي لها عبر هندسة الصور الذهنية على أسس بحثية علمية. هذه الهندسة تؤدي إلى تنمية رأس المال المجتمعي والتنوع المحمود، الذي يقر بالصفات مرسخًا إيجابيها ومقلصًا سلبيها..الخ
لا يمكن استمرار العرض لكتاب يربو على 390 صفحة، إلا أنه يمكن إعطاء لمحات انطباعية عنه. من وجهة نظري، كان أثرى وأطرف فصول الكتاب تلك المتصلة بالتاريخ، لا سيما أن المؤلف اعتنى بجماليات اللغة بأسلوب أدبي راق في عموم الكتاب وبطريقة فذة في التحليل والتنظير، ولم يرتهن لجفاف لغة البحث العلمي إلا بحالات الضرورة المنهجية كما في باب البحث الكمي، الذي رغم ذلك كان مشوقًا لأنه يسد رمق الفضول بالصور المتخيلة بأذهان الآخر حيال الشخصية القصيمية.
وعلى الرغم من محاولة المؤلف الابتعاد عن اللغة البحثية الجافة، إلا أنه - كباحث أصيل - اعتنى كثيرًا بالتأصيل المنهجي لكل باب، وطرح الأطر المنهجية لكل فصل، والإكثار من الهوامش التوضيحية، والتفسيرات والشروح لفك الالتباس المحتمل سواء فيما يطرحه أو ينقله عن الآخرين.. فضلاً عن تخصيص فصل كامل لمنهجية الكتاب، إضافة للمقدمة.. وفي ظني أن ذلك قد يجلب الملل لبعض القراء غير الباحثين.
ويبدو ذلك نتيجة خشية المؤلف البالغة من انزلاقه في التحيز أو اتهامه بها، لا سيما أن الموضوع حساس ويندر التطرق له. لكن مهما حاول فإن الموضوعية والحيادية المطلقة مستحيلة، خاصة في العلوم الإنسانية، فلا بد من تداخلها مع الذاتية سواء في انتقاء النصوص التاريخية والراهنة، أو التحليل والاستنتاجات، مهما كانت المنهجية صارمة؛ ولا غضاضة بذلك فأي إنسان هو بنهاية المطاف حصيلة هويته الذاتية، ولا يمكنه الفكاك منها، لكن يمكنه تقليصها للحد الأدنى الذي تمنحه إياها المنهجية الصارمة المستخدمة، والمؤلف نجح بذلك إلى حد بعيد، في تقديري. أما بخصوص الموضوعية العلمية فيقول عنها الفيلسوف كارل بوبر (أستاذ فلسفة العلم): «لقد أثبت المفهوم العلمي القديم للمعرفة ذات اليقين المطلق أنها وهم. إن الحاجة للموضوعية العلمية يجعل من المحتم أن تظل كل عبارة علمية مؤقتة».
أخيرًا، الكتاب باذخ الثراء سواء من ناحية المعلومات والبيانات الخام التي يزخر بها أو من ناحية استخلاصها لاستنتاجات طرحها المؤلف مدعومة بنقاش مستفيض وبوتقها في فسيفساء اجتماعية شكَّلت شخصية القصيمي مرسومة بفرشاة الآخر، لتكون فاتحة منهجية لباب الشخصية المحلية في البلاد العربية..