د. محمد عبدالله الخازم
في التعليم يمكنك طرح عدة مبادرات لموضوع واحد، جميعها صحيحة وجميعها عليها ملاحظات، لذلك لا تجد اتفاقاً على أفضل الممارسات، لأن التعليم ليس مجرد معادلة رياضية، بل عنصر متعدِّد العلاقات يتأثر بالبيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية وغيرها. لذلك عندما تطرح مبادرة تعليمية يفضل إتاحة المجال لأكبر قدر من النقاش والحوار والمناظرة حولها لغرض تجلية كافة إيجابياتها وسلبياتها من زواياها العلمية والحقوقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغيرها. وزارة التعليم وعلى مدى سنوات لديها حماس لطرح مبادرات واحدة أثر الأخرى وأحياناً لا تأخذ حقها في نقاش التفاصيل وتقييم الواقع الميداني بشكل علمي وموضوعي كاف. يُقال إن تعليمنا أصبح (كشكولاً) يفتقد الهوية الفكرية المستقرة والفلسفه المستقلة، فما إن يأتي مسؤول ويتحمَّس لتجربة دولية تعجبه حتى يتبناها ولطبيعة التراتبية الإدارية في اتخاذ القرار ينتهي المطاف بتطبيق تجارب لا يتفاعل معها الميدان ولا يقتنع بها. التغييرات الجذرية في التعليم تتطلب التروي وطبيعتها لا تشابه إدارة الأعمال التجارية في سرعتها، فقد تحتاج مبادرة صغيرة تطرحها اليوم عقد من الزمان ليُرى أثرها.
أحد شواهد عدم استقرار التغييرات في التعليم هو ما يحدث لهذه (المسكينة) المسماة الثانوية؛ كل يوم لها نظام وكل من يأتي يعتقد أن القصور في (المودل) أو النموذج أو الهيكل وليس في الأداء فيقوم بتغيير ذلك، وآخر النماذج المقترحة هو نموذج الأكاديميات بمسارات عديدة كبديل للثانوية العامة ... إلخ. كما أشرت في المقدمة لا أستطيع الجزم بأفضلية نموذج على الآخر بشكل قطعي، لكنني لا أرى عمقاً فكرياً وفلسفياً من الناحية التعليمية في نموذج المسارات المقترحة في تلك الأكاديميات، ووجهة نظري هذه لا تنفي وجود نموذج مشابه لما هو مطروح في دولة ما في مكان ما من العالم ولا تنفي أن هناك هدفاً أو ربما فلسفة يعتقدها المنادون بهذا النموذج، ربما لم يشرحوها لنا بشكل كاف.
بكل بساطة أنا أرى الثانوية (بعيداً عن مسماها ثانوية أو أكاديمية) تعليم عام، مكملة لما قبلها في تأسيس مهارات التعليم والتعلّم الأساسية والتفكير العلمي المتمثِّل في العلوم والرياضيات واللغة والآداب وما له علاقة وغرس القيم الإنسانية والوطنية وتحقيق مفاهيم الذكاء الاجتماعي ... إلخ. أكثر من ذلك هو تشتيت للذهن وللجهد وقد يصادر حقوق الطالب. عندما أوجه طفلاً في عمر الخامسة عشرة نحو التخصص الصناعي أو الشرعي أو التقني أو العلمي فهذا يعني تضييق فرص التنوّع لديه في حياته المستقبلية، وهذا ضد ما نريده لأبنائنا من حرية مصحوبة بوعي في اختيار مسقبلهم. خريج الثانوية ليس ناضجاً أحياناً في معرفة ميوله وتوجهاته ونقاط قوته ورغباته المستقبلية لذلك طالبت سابقاً بتأجيل اختيار بعض التخصصات المهنية لما بعد المرحلة الجامعية التأسيسية، فما بالنا نريده أن يختار وهو لا يزال طفلاً!
الخلاصة؛ الثانوية ليست تخصصاً مهنياً أو جامعياً، ويجب أن تبقى ثانوية/ أكاديمية عامة، جزءاً من التعليم العام، تحوي مواد تأسيسية للجميع واختياريه تكمل وتناسب ميول الطالب. لا أحبذ النظر إليها من منظور التعليم الجامعي أو محاولة استخدامها كجسر للتوظيف أو سد عثرات التعليم الجامعي...