د. سلطان سعد القحطاني
الفصل الأول في الدراسة:
- دور الصحافة في توطين الأدب الحديث.
- التجربة الروائية القصصية.
- التجارب الروائية الأولى.
الفصل الثاني:
- الفن الروائي الحديث.
- التجربة الروائية.
- الرواية الحديثة.
ونحن في هذا البحث سنعالج نقيضين يختلفان حيناً ويتفقان أحياناً أخرى، فالأبحاث التي دارت حول هذا الفن النثري، تمسكت بالتقليدية في مضامينها ولم تخرج منها فجاءت متشابهة في الشكل، وأحياناً في المعنى، والآخر تحرر من التقليدية، واستند على المنهج الحديث في المعالجة، وعلى أيّ حال، فكل منهما متصل بالآخر في الشكل حيناً، وفي المضمون حيناً آخر، بما تجود به الظروف والمعطيات (الزمانية والمكانية) والتطورات الإقليمية والعالمية.
وسيقف هذا الفصل باقتضاب يحكمه برنامج الملتقي على الملامح المهمة لتلك الحقبة، فلقد شكل النص الأدبي الإبداعي الخطوط العريضة منذ أن بدأه الرواد، ثم تشكل بعمق في مرحلة الثمانينيات والتسعينات1980/1400، في الرواية والقصة القصيرة التي ازدهرت في تلك الحقبة، التي ظهر فيها اسم الكاتب السعودي بوجه وطني في معظم الناتج الإبداعي، وتجلى فيها بعضه وأخفق فيها كثير من أصحاب التجارب الضعيفة، وخلط فيها كثير من الناشرين نصوصاًً لا تمت إلى الرواية بصلة، باسم الرواية لأنها بنت الحقبة، وذلك لأغراض تسويقية بالدرجة الأولى.
وتجلى الخطاب الأدبي الوطني والبحث العلمي بوضوح من خلال النص والنقد والبحوث العلمية، سواء على أيدي السعوديين، نقاداً أو باحثين، أو من الزملاء الوافدين، في الجامعات السعودية، ببحوث في مجال الرواية، أثرت المشهد باجتهادات وفق كثير منها.
الفصل الأول:
دور الصحافة في توطين الأدب.
لا ينكر كل متتبع للأدب الحديث، في كل فروعه وقوانين تصنيفه، ما للصحافة من دور رئيس في تنمية هذا النوع الأدبي الحتمي للذائقة الفنية والفائدة العلمية، على حد سواء. ولم يغب هذا الشرط عن أذهان الباحثين وشداة الأدب الحقيقي، فقد رأى الأدباء ما للصحافة من دور فعّال في توصيل الرسائل الأدبية إلى جمهور المتلقين، من أدباء ومثقفين، ليس في العالم العربي فحسب، بل في كل أرجاء العالم، حيث قامت النهضة العلمية والفنية على هذه المعطيات الأدبية، منذ أن عرف الإنسان قيمة الإبداع وأثره على مر العقود والعصور، منذ الجاهلية إلى اليوم، وأنه قوام كل دولة تظهر على وجه الأرض، حفظ لها منجزاتها الفكرية والعلمية في مدونات ما تزال تنبض بالحياة إلى يومنا هذا.
ولم تزل منطقة الحجاز قلب الأمة النابض منذ سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى اليوم منارة للعلم والمعرفة والتفتح على العالم، وخاصةً بعد الرسالة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. ففي زمن الانحطاط العلمي والفكري في العالم كانت مكة والمدينة المنورة منارتين للعلم والمعرفة، ولكل زمان ظروفه الأدبية، ولكنَّ قاسماً مشتركاً لكل تلك المعطيات كان يجمعها، وهو الثقافة. ولن أطيل في هذه المقدمة كي لا نخرج عن موضوعنا المحدود بزمان معيّن يتفق وزمان الملتقى السادس عشر لنادي جدة الأدبي.
من المسلمات الثقافية والعلمية في النهضة الحديثة، وخاصة بين الحربين الكونيتين وبعدهما، ظهور مستجدات عالمية غيرت من مجريات الحياة بكل أطيافها، وفي مقدمة هذا التحول الكوني ظهور الصحافة والطباعة، كضرورة حتمية لنشر سياسة بلد ما ونشر ثقافته، بما يتماشى مع معطيات المرحلة، وبما أن الصحافة لسان حال البلاد التي تصدر عنها، فلم يغب ذلك عن أذهان المفكرين والأدباء والعلماء، ولكن السؤال، كيف توجد هذه في بلد كالسعودية، معظم سكانها من البدو الرحل، والفلاحين البسطاء، والقراءة والكتابة فيها محدودة جداً، بل تزداد ندرتها في مناطق متعددة وسط الجزيرة العربية بصفة خاصة، إذا استثنينا التعليم الديني في بعض الحواضر في نجد وجازان والأحساء وما جاورها. والقراءة والكتابة تحتاج إلى مفردتين رئيستين، هما كاتب يصدرها ومتلقٍ يقرأها. وكما ذكرت لم تتوفر هاتان المفردتان إلا في منطقة الحجاز، بشكل رئيس، وأخص مكة والمدينة المنورة(1) التي لم تنقطع في زمن الأمية عن العلم والتعليم، وليس هذا فحسب، بل إنهما مركز العلم والمعرفة، لوجود الحرمين الشريفين فيهما على مر العصور، من جهة وارتباطهما بالبلاد المتقدمة علمياً وثقافياً، في مصر وبلاد الشام، من جهة ثانية(2) حيث يؤكد بعض الباحثين أن الصحف كانت تصلهما بعد يوم أو يومين من صدورها في مصر وبلاد الشام(3) وهذا كان حافزاً لأولي النهى والمواهب لمسايرة تلك البلاد المجاورة في تقدمها، علمياً وفنياً.
وإذا أردنا الإنصاف لتلك المجموعة من الشباب المثقف، ثقافة عصرية تليق ببلد متعطش للعودة إلى تراثه الأدبي بأسلوب عصري جديد يتماشى مع معطيات العصر الذي ظهر فيه.. فالنهضة التي نشطت في البلاد المجاورة التي ذكرناها من قبل لم تنقطع عنها، فلم تكن الجزيرة العربية بجهود أبنائها عاجزة عن مسايرة هذا التطور العصري وتوثيقه في المصادر السعودية (4) ولا بد من الاهتمام بهذا الجانب لمسايرة ما ذكرنا، فأسس عبد القدوس الأنصاري (1324-1403/1906-1983) مجلة المنهل، سنة 1937، وكابد في متابعتها للصدور في وقتها، حتى حسبت المنهل من أهم مراجع الثقافة والأدب في المملكة، ولم يكن عبدالقدوس الأنصاري مقتصراً على تحرير المنهل وملكيتها، حتى في زمن تحويل الصحافة إلى مؤسسات، فقد رأس تحرير جريدة أم القرى (1343-1924) التي تحول مسماها من (القبلة) التي أسسها الشريف حسين، إلى مسماها الحالي، وكانت رئاسة عبد القدوس الأنصاري خلفاً لفؤاد شاكر (1322-1393/1904-1973) الذي كانت رئاسته لها ما بين 1355-1370حوالي ست عشرة سنة.
واهتم الأنصاري بالبحوث اللغوية، على حد تعبير الدكتور منصور الحازمي(5) ويعتبر فؤاد شاكر من أوائل المهتمين بالثقافة من خلال الصحافة، فقد أنشأ جريدةً في القاهرة أبان إقامته هناك، ثم استدعته الحكومة السعودية للعودة ورئاسة تحرير أم القرى، كما ذكرنا آنفاً(6)، ولا يخفى على المتابع للحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية ما للصحافة من دور فعّال في تنمية الثقافة والمعرفة والإرشاد والتربية، في وقت هي بأمس الحاجة لمواكبة العصر ومتطلباته وإثبات الهوية الوطنية في العالم العربي، وإن كان لبعض الباحثين من رؤية حول تقليدية بعض النتاج الأدبي فيها، لكن مبرر ذلك بداية الخطوات الأولية قبل الفنية التي ظهرت بعدها، فتلك كانت إرهاصات لظهور الفن الحديث، وهذا أمر طبيعي يعرفه كل باحث منصف فيما سنتعرض إليه في الحديث المقبل، ولا مانع من نقد بعض الأعمال، فيما يخص الفنية منها، أو المسميات التي لم يثبت إثباتها من بطلانها في ذلك الزمن، مثل ما تعرض له عبدالقدوس الأنصاري من نقد لاذع من محمد حسن عواد، الذي لم يراع ظروف المرحلة في نقده لقصة مرهم التناسي، والتوأمان، للأنصاري نفسه(7)، كما أن القصة في ذلك الوقت كانت تعتمد في كثير مما نشر على الترجمات من اللغات الأخرى دون ذكر المصادر، وقد حققنا في ذلك فوجدنا معظمها مترجماً من اللغات العالمية تحت أسماء غير معروفة، وبعضها مجهول المؤلف(8)، وبالرغم من أنها كما ذكرت مأخوذة من مصادر غير معلومة، ولا من كاتب معلوم في بعضها، إلا أنها قد أثرت الساحة الأدبية والفكرية، وأسست قاعدة لكتاب المرحلة، ونشطت الصحافة الأدبية من خلالها، حتى بعد أن ظهر الكتَّاب الذين هضموا معنى القصة القصيرة، بداية من إبراهيم الناصر الحميدان، في قصته القصيرة (الهدية) ومجموعتيه القصصيتين(9)، ويعتبر الحميدان أحد الذين بدؤوا الإبداع الحديث، بجانب حامد دمنهوري، وحمزة بوقري، كما سنرى في نتاج المرحلة الثانية. وبصرف النظر عما قدمناه سلفاً عن النقد الجائر من بعض الكتّاب فيما يخص الإنتاج الأدبي المبكر، إلا أن هناك من غيَّر وجهة الأدب القصصي -بصفة عامة- مثل محمد سعيد العامودي في كتابه، الأدب القصصي في الحجاز(10)، ومثله أحمد محمد جمال في كتابه، ماذا في الحجاز، وكلاهما ينشد أدباً حيوياً حديثاً، كسائر البلاد العربية المتقدمة، مما ذكرنا فأعطيا الأدب حقه وما له وما عليه، ولم ينف أحد من النقاد تأثر الأدبلقصصي بما جاور الحجاز من البلاد العربية، وهذا ما أثبتته الدراسات العلمية في مجال التأثير والتأثر، وأنها حاجة ملحة وصورة للمجتمع، لكن في الوقت نفسه هناك الفروقات الخاصة لكل بيئة من البيئات، وتلك لها تأثير في حياة المبدع والناقد، والنقد العلمي جزء من الإبداع في تحليل النص بلا تحيز.. وكان منظرو النقد يقولون بموت الكاتب، أي تغييبه عن مشهد النقد، حتى لا يخلط الناقد بين شخصنة المبدع وعمله، وهذا ما لم يصبح مستساغاً في ذلك الوقت، وإلى اليوم كما أشرنا إليه.
ومن المسلمات العلمية والفنية أن السعودية -كما هي بلاد المسلمين عامة- فهي بلد التقبُّل لكل وافد إليها، وكان من الوافدين في الزمن المبكر من جاء إليها طلباً للعلم الشرعي، في مكة والمدينة المنورة(11)، كما شارك في الكتابة في المنهل عدد منهم: أحمد رضا حوحو، من مواليد بسكرة في الجزائر (1910-1956) قدم مع أسرته إلى المدينة المنورة، والتحق بمدرسة العلوم الشرعية، لصاحبها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، ثم تخرج وأصبح مدرساً فيها، وهو صاحب رواية غادة أم القرى، الذي أقام في المملكة عدد سنين، طالباً ثم محرراً في المنهل، فمترجماً لمصلحة البريد، لإجادته للغة الفرنسية، ثم عاد إلى الجزائر معلماً ومجاهداً، حتى وافته المنية هناك.
كما شارك من الوافدين أحمد بوشناق، ومحمد عالم الأفغاني، وغيرهم من الدارسين والوافدين في ذلك الزمن، ولن أتقصى أخبار هؤلاء، فهي متاحة في كل المصادر، حتى أن البعض نسب بعضهم إلى السعودية، كمقدمة لملامح الهوية الوطنية، والتي خلط بعض الباحثين فيها بين الوطني والوافد، مع تقديرنا للوافدين في ذلك الزمن.. فنحن بحاجة ماسة لهم ولإنتاجهم وتعليمهم في بداية الدولة الفتية، ومن هذا المنطلق، أو التوضيح بما عنيت من تدرج للوصول إلى شخصية وطنية فيما بعد وهو النص الذي اهتم بملامح الهوية الوطنية دون تحيز، ومهما يكن فهي جزء من الهوية العربية -عموماً- ولكن لكل جزء خصوصياته.