د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تقول الروايات غير الموثوقة إن الخليل تعلق في أستار الكعبة، وسأل علماً لم يسبق إليه، فكان علم العروض، وقد ظل العروض في الثقافة العربية القديمة والحديثة العلم المدلل الذي يبدو أن العرب يشعرون بالزهو الكبير حيال هذا المنتج العربي الأصيل المتماسك الذي استنبطه الخليل من شعرهم، وهم يتعجبون من هذه الدقة التي تنطبق قواعده الإيقاعية على الشعر، فنراهم يدورون حولها يفتقونها، ويربطونها بنظامهم الإيقاعي تحت ما سمي بالدوائر العروضية التي يقال إن الخليل هو الذي صنعها.
وقد قسم الخليل الوحدات الإيقاعية إلى قسمين: فسمى أحدها السبب وهو ما يتكون من حرفين، والآخر الوتد وهو ما يتكون من ثلاثة حروف، وفي الوقت الذي يتكون السبب من حرفين فإن الوتد يتألف من ثلاثة أحرف، وقسم الأسباب إلى ثقيل وخفيف، الخفيف ما يتكون من ساكن ومتحرك، والثقيل ما يتكون من متحركين، والوتد أيضاً على قسمين: مجموع وهو ما يأتي المتحركات فيه متتالية، ومفروق وهو ما يقع السكون فيه بين المتحركين. وجعل التفعيلة تتكون من أسباب وأوتاد يكثر عددها ويقل بحسب طول التفعيلة التي قد تكون خماسية أو سباعية، تختلف إيقاعاتها بحسب اختلاف ترتيب الأوتاد والأسباب، واختلاف أنواعها، ومن خلال هذا الاختلاف ينشأ الوزن، وبناء على هذه الأسباب والأوتاد يكون الإيقاع مبنياً من متحركين أو متحرك وساكن، أو متحرك وساكن ومتحرك أو متحركين وساكن، وحين يتوالى السبب والوتد فإن من الاحتمالات الموجودة أن يتوالى أربعة متحركات من خلال السبب الثقيل والوتد المجموع بيد أن هذا لا يأتي في البحور، فالمتحركات المتتالية في الغالب ثلاثة متحركات، ولا يتم أكثر من ذلك إلا بالزحافات والعلل وسأتحدث عنه فيما بعد.
ثم تجاوز هذا النظام إلى أن اخترع نظاماً آخر سماه العلل والزحافات، وفيه يوسع دائرة الإيقاعات الشعرية خارج إطار هذه المنظومة الصارمة، ويدخل إيقاعات أخرى لا تتسع لها، من خلال إمكانية الحذف في الأوتاد أو الأسباب، وتغيير نظام الحركات فيها، وما يلتزمه الشاعر من تغيير في الإيقاع يسمى علة، وما لا يلتزمه زحافاً، ثم جعل بعض الزحافات تجري مجرى العلل، وبعض العلل تجرى مجرى الزحاف، بمعنى أنه إذا خرج الإيقاع عن هذه المنظومة سمى هذا الخروج زحافاً أو علة، وقيده وجعل له اسماً معيناً.
والأمر اللافت للانتباه أن التغيير الواحد يأخذ أسماء مختلفة، فهو مرة يعده زحافاً، ومرة أخرى يسميه علة، وعلى الرغم من الفارق المعروف بينهما، ومع أن هذا يجعله أكثر صرامة في تحديد قواعد الزحافات التي تصيب التفعيلات، وما يصح منها وما لا يصح، فإنه يوحي أيضاً بعدم القدرة على ضبط النظرية ضبطاً دقيقا بتقليل القواعد وضم المتشابهات إلى بعض، إذ لا نجد فرقاً بين هذه المصطلحات إلا في الموقع كالفرق بين «الخبن» و«الطي».
فالقضية المهمة أن هذا التغيير في الإيقاع عن الأصل يحدث في السبب الخفيف بحذف الساكن، وقد يكون من المعقول القول إن قياس تأثير هذا التغيير بموقعه من الإيقاعات المجاورة بصورة أخرى بموقعه من السياق الإيقاعي، ولهذا ربطه بالسياق، وخصه بالتسمية، بيد أن هذا يتصل بما سنسميه فيما بعد بالوحدة الإيقاعية الصغرى، كما أنه أيضأً يتناقض مع فكرة أن التفعيلة تقوم على تبديلات بين الأسباب والأوتاد الذي يعني أن هذه الأسباب تملك حرية التنقل وتستقل عما يجاورها وإن كانت تحدث معه النغم الكامل.
فالتبديل من أساس النظرية، ومن هنا لا معنى لأن يخص التبديل في الموقع بمصطلح خاص، إذا كان هذا التبديل يلحق جميع بنى التفعيلة، أو إذا كانت التفعيلة مكونة أساساً من هذا التبديل، والأمر المهم بالنسبة لي أن هذا التبديل متساو بالشكل والموقع.
والمظنون أن هذه القواعد التي وضعها الخليل تتطابق بجزئياتها مع الإيقاعات الشعرية العربية، وأن هذه التنويعات الدقيقة في بناء التفعيلة، وفي التغيرات التي تطرأ عليها هي محاولة لرصد التغيرات الإيقاعية في بنية البيت الشعري العربي.
والمشكلة الأولى التي تواجهنا عند قراءة العروض هي أن الخليل لم يعرِّف «الكسر»، فالكسر كما هو معروف يمثل - بصورة نظرية عروضية- الخروج على هذه الإيقاعات التي حددها الخليل، إلا أن هذا الخروج عن المنظومة موجود، وقد شرعه بتسميته زحافاً وعلة، وهذا يعني أن الخليل قسم الخروج على المنظومة إلى قسمين: أحدها مقبول وسماه علة وزحافاً والآخر غير مقبول وعده كسراً، وليس هناك حد واضح على المستوى النظري للفرق بين هذين النوعين إلا على افتراض أن الأول متوافق مع النغم العربي، والآخر يظن أنه غير متوافق.