حمد ناصر الدُّخَيِّل
سيرتها حافلة بالمشاركات الثقافية والأدبية، ولا سيما الإبداع في أدب الطفل، والقصص الهادفة الموجهة إليه التي تسعى إلى تثقيفه وتوسيع مداركه وخياله، ولها برنامج في تلفزيون الكويت متعدد الحلقات يُعْنَى بتثقيف الطفل، وترغيبه في القراءة ومصاحبة الكتاب، اسمه (حوازي منيرة) يتضمن قصصًا تجمع بين الحقيقة والخيال. تساق بأسلوب قصصي مشوق، واستمعتُ إلى نماذجَ منها، ورأيت أنها قريبة الشبه بالقصص المشوقة التي نسميها في نجد بالسباحين؛ لأنها تبدأ بعبارة (سبحان الله في سماه العالي)، ودون الأستاذ عبد الكريم الجهيمان -رحمه الله- عددًا من السباحين في كتابه (أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب) في خمسة مجلدات، وبين حوازي الكويت وسباحين نجد شبه كبير، واتفاق ملحوظ بينهما في الموضوعات والمضامين والأسلوب، والبدء والعرض والختام. ومعظم هذه الأساطير سمعتها في صغري.
والحوازي مفردها حِزَاية بالياء، وأصلها عربي فصيح؛ فالحازي هو الذي يتخيل حوادث المستقبل ويخبر بها، كالكاهن والطارق وقارئ الفنجان، وضارب الرمل والودع من حزا يحزو ويحزي، وتحزَّى: تخيَّل وتكهَّن(12). ولكن لم أجد ما يدل على أن الحِزَايةَ قصة خيالية أو حقيقية في معجمات اللغة التي رجعتُ إليها.
وتكاد القاصة تختص بهذا اللون من النثر الفني القائم على السرد بأسلوب ميسر مشوق جاذب للأطفال.
موضوع القصة:
تتحدث القصة عن فتاة صغيرة في عمر الصِّبا، معروفة الحسب والنسب، ولدت في قرية زراعية صغيرة معدودة البيوت، ونشأت مع والدتها ووالدها وإخوتها الصغار في بيت طيني ليس بالصغير ولا الكبير، بل وسط بين ذلك، ولكنه يعد بيتًا كبيرًا بالنسبة لبيوت القرية، وقدر لها أن تتزوج من رجل لا تعرفه، ولا تعرف أسرته، يجمعها به فخد القبيلة فقط، يعيش في الكويت بعيدًا جدًا عن قريتها وأهلها، ويرحل بها على ظهر مطية إلى هناك؛ لتجدَ نفسها في بيئة غير بيئتها، وبلد غير بلدها، وأهل غير أهلها، وهي الفتاة التي لا تعرف سوى قريتها المتواضعة المتوارية وسط غابة من النخيل. ويقدر الله أن تقضي بقية عمرها في هذه البيئة الجديدة التي لم تكن تعرف عنها شيئًا من قبل. ولكنها تتأقلم معها، وتندمج مع أسرة زوجها وأقاربه ونساء جيرانها، وتعيش أحداث ذلك كله، وتنصرف إلى العناية بزوجها وبيتها وأحفادها.
مصدر القصة:
هذه الفتاة النجدية التي شعرت في بداية قصتها أنها انتزعت من قريتها وأهلها، وهي لم تخض تجارب الحياة؛ لصغر سنها، كانت الأحداث التي مرت بها محفورة في ذاكرتها، وربما كانت تجد متعة في روايتها، واستعادة ذكرياتها عبر عقود من الزمن، وكانت تعطف على حفيدها عبد الرحمن والد الكاتبة كأي جدة، وتأنس بقربه، وكان الفتى الصغير يبادلها شعورًا بشعور، وأنسًا بأنس، وحبًا بحب، وكان يجلس إليها في ساعات الفراغ، فتقص عليه بعض القصص الشعبية المشوقة كعادة الجدات مع أحفادهن، وربما قصت عليه قصصًا سمعتها من أمها، وكان يستمع إلى ما تقصه عليه برغبة قوية، وإنصات تام، وتختزنه ذاكرته الفتية.
ومن هذه القصص قصة حياتها وحياة أهلها في القرية، وما كان يلم بهم من فقر وشح وجوع، وقصة خطبتها إلى زوجها وزواجها، وما كان يجري بينها وبين والدتها من حوار، وما كان يجري أيضًا بين والدها ووالدتها من حديث حول أوضاع زواجها، ثم أحداث رحلتها إلى الكويت مع زوجها، وما تضمنته الرحلة من متاعب الطريق الطويل الذي لم يكن من وسيلة لقطعه سوى الركوب على ظهر ناقة، وأردفت في سردها أخبار حياتها في بيئة الكويت آنذاك التي تمتاز بلمسات حضارية ومدنية لا تتوافر في قريتها النجدية. واحتفظ الحفيد والد الكاتبة بقصة جدته حتى رواها لابنته بعد سنين من مغادرة بطلة القصة الدنيا وما فيها عام 1395هـ - 1975م، قبل أن ترى القاصة الدنيا بنحو سبعة أعوام، ولم يقدر لها أن تكتحل عيناها برؤية جدتها. وكانت تتلهف لمعرفة أخبارها، وما كان يتحفها به والدها من وقائع حياتها منذ أن كانت صبية في القرية إلى آخر لحظة من حياتها المفعمة بالأحداث، وتأثرت الابنة المؤلفة تأثرًا شديدًا بما تسمعه وتصغي إليه، وشعرت نحو بطلة القصة بعطف لا حدود له، وبمودة لا مزيد عليها، وتمنت لو أنها سعدت برؤيتها، ولو بضع سنوات، وهي بهذا الإحساس المفرط أبانت عن نفس رقيقة شاعرة تتأثر بالأحداث والقصص التي تحمل طابع المأساة، وبلغ هذا التأثر العاطفي أقصاه حتى أقدمت على تدوين قصتها منذ البداية، وأضافت إليها من صور الخيال وأخبار الأسرة ما تكتمل به عناصر القصة وأحداثها.
عنوان القصة:
من المجمعة إلى المرقاب عنوان مختصر ذو دلالة على موضوع القصة، ويرمز إلى أحداثها في ثلاث كلمات؛ فالمجمعة المنشأ والمنطلق، والمرقاب المقصد والمستقر، وبينهما الطريق وما اكتنفه من وعثاء السفر ومصاعب الرحلة. وكل كلمة من الكلمات الثلاث تحمل في مضمونها قصصًا وأحداثًا هي مكونات القصة.
المجمعة قاعدة سدير، ومقر المحافظة مدينة تقع في سرة نجد إلى الشمال الغربي من الرياض بنحو مائة وثمانين كيلاً، وتتوسط الطريق تقريبًا بين الرياض والقصيم وملتقى طرق من الجهات الأربع، وهي معروفة جيدًا لأهل الكويت، إِذ هي في طريق سفرهم للحج والعمرة، وقاصدي الرياض والوشم والقصيم، وتطورت في السنوات الأخيرة تطورًا سريعًا شاملاً وكثر سكانها، وافتتحت فيها جامعة متعددة الكليات والأقسام العلمية والنظرية، وعلى بعد مسيرة نصف ساعة تقع مدينة سدير الصناعية، وبهذه النهضة الشاملة استحقت أن تلقب بمدينة المستقبل.
والمرقاب من أحياء الكويت القديمة، ويقع جنوبي الصفاة، وبدأ أهل الكويت يتخذونه سكنًا عام 1910م في عهد أمير الكويت الشيخ مبارك الصباح (1254 ـ 1334هـ - 1838 ـ 1915م) وسمي بهذا الاسم؛ لأن أهل الكويت كانوا يرقبون ويشاهدون من يقدم إلى الكويت، وكان مرتفعًا عمّا حوله(13). والذين يأتون من نجد ـ ولا سيما من سدير والوشم والقصيم والزلفي ـ يسكنون في المرقاب، ومنهم زوج بطلة الرواية عبد الرحمن العيدان الذي يمثل الجيل الأول في أسرته التي استوطنت الكويت، في حين تمثل كاتبة القصة الجيل الرابع. والمرقب والمرقاب معناهما واحد، ومن ذلك مرقب المجمعة الذي استوحته فنانة الرسم سُهيلة النجدي على غلاف الكتاب.
التعريف ببطلة القصة وأسرتها:
نورة بنت عبدالله بن محمد الحسيني بطلة القصة، ولدت في الفشخاء في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ووالدتها سارة بنت إبراهيم بن يحيى الدُّخَيِّل من أسرتنا. كان والدها عبدالله بن محمد الحسيني رجلاً قصيرًا مكتنز الجسم قويًا توفي عام 1358هـ بعد عمر طويل، تجاوز مائة عام، وكان معروفًا لوالدي ومجايليه، وكان يسكن مع أسرته في قرية الفشخاء قربَ منزلنا بمسافة لا تتعدى عشرة أمتار في سكة تعرف بسكة الجُدَيِّدة بالتصغير ويقع المنزل الذي يطلق عليه بيت الحسانا شرقي مسجد القرية الوحيد الذي لا يزال قائمًا، كهيئته يوم بُنِيَ أول مرة، ويبعد عنه نحو خمسين مترًا، ولا تزال بقايا البيت قائمة، ولو رمم لعاد كما سكنته بطلة القصة، وما زلتُ أتصور معالمه قبل أن يتهدم.
وتقع الفشخاء غربي المجمعة بمسافة تقدر بنحو كيل ونصف الكيلو كنا نقطعها في صغرنا مشيًا على الأقدام ذهابًا إلى المدرسة وإيابًا إلى القرية. وهي بلدة زراعية تحتضنها النخيل من جوانبها، ولا تتجاوز بيوتها أربعين بيتًا، وسكانها من بني تميم، النواصر والوهبة وآل العنقري، اكتسبتْ معرفة الناس حتى خارج الحدود بعد توالي كتاباتي عنها في الصحافة، والتعريف بها في بعض اللقاءات، وحديث المجالس ووسائل التواصل.
ولم تذكر الكاتبة الفشخاء بكلمة في القصة، ولعلها لا تعرفها حين كتبت القصة، أو لم يرد لها ذكر حين قصّ عليها والدها أحداثها، أو أنها رأت أن المجمعة أكثر شهرة وذيوع صيت من قرية صغيرة مغمورة، ولكنها ـ على الرغم من ضآلة شهرتها ـ تضرب عمقًا في التاريخ؛ فقد كانت معروفة باسم القلعة في أواخر القرن الثالث الهجري، وذكرها بهذا الاسم الحسن بن عبدالله الأصفهاني في كتابه: بلاد العرب.
وأسرة أم بطلة القصة اليحيا الدُّخَيِّل عاشت في الفشخاء، ولهم نخيل، ومنزلهم الذي عاشت فيه والدة نورة الحسيني بطلة القصة لا يزال موجودًا. وأدركتُ في صغري خال بطلة القصة عبدالله بن إبراهيم بن يحيى الدُّخَيِّل، توفي في السبعينات الهجرية من القرن الرابع عشر، وتوفي شقيقها إبراهيم الذي ورد الحديث عنه في القصة عام 1352هـ إثر سقوطه من النخلة قبل وفاة والده بست سنوات، وكانت ولادته عام 1298هـ، وله شقيق اسمه محمد، وأدركتُ زوجة إبراهيم هيا بنت عبد العزيز الحسيني، وكانت صديقة لوالدتي، ورأيتها تتردد عليها في منزلنا في الفشخاء، ويتبادلان الأحاديث، وكانت تعيش مع ابنها عبد العزيز بن إبراهيم المتوفى في شوال عام 1383هـ، وزوجته نورة بنت أحمد بن محمد بن عبدالله بن محمد الحسيني (1351ـ 1439هـ)، التي تلقب بالأحمدية؛ لأن والدها لم يخلف سواها، وهي أم لشقيقي عبدالعزيز من الرضاع. وكانت بيننا وبين عبد العزيز بن إبراهيم شراكة في الزراعة والفلاحة في الفشخاء امتدت سنوات. وكانت هيا - رحمها الله ـ موصوفة بطاهرة القلب ودماثة الخلق (14).