يعرف الدكتور عبد الوهاب المسيري مصطلح ميتافيزيقا التجاوز Metaphysics of Transcendence بأنه نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها وفي النظم التوحيدية هي الإله الواحد المنزة عن الطبيعة والتاريخ فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرمه وحمله عبئ الأمانة والاستخلاف وهذا يعني أن الإنسان بداخله رغبة مطلقة في التجاوز وفي الإيمان بكل مطلق مستقل عن الطبيعة ومحرك لها كما يعني أن الإنسان وجوهرة الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه... تذكرت ذلك التعريف وأنا أطالع المجموعة القصصية الجديدة للكاتب الشاب عاطف عبيد «التنظيم السري للسيدة الشقراء» فبدءاً من قصة «الحذاء» التي اختتمها الكاتب بسرد قصة إبراهيم عسران الفلاح الذي ظل حتي مماته يرتدي حذاءً مقاس 41 وهو لا يدري أن مقاس قدمة 43 فقد «كان كتوما طوال حياته، قليل الشكوى؛ جاء إلى الدنيا، ورحل منها، ولم يعرف أن البراح كان على قرب نمرتين زيادة في حذائه الضيِّق». ترصد تلك الإشارة في نهاية القصة دلالة كبرى في شخصية الفلاح المصري وهي النفس الراضية التي تتقبل الألم في رحابة صدر وتحتسب المحن عند رب غفور فإبراهيم عسران لم يكن نموذجا للبخيل أو الشحيح الذي يقتر على نفسه وذويه بل كان صورة للقرية المصرية الساكنة والصامتة والتي تلفحها نيران الحياة فتتقبلها بصبر جميل ويبدو بناء القصة متوافقاً مع شخصية إبراهيم عسران فلا مفاجآت في الأحداث ولا تمرد في بنية النص بل انسياب تلقائي هادئ وموقن بحتمية النهايات، ولعل شخصية الفلاح المصري كما رسمتها القصة تستمد رضاها وسكونها من جغرافية مصر التي يصفها جمال حمدان بقوله «التجانس الطبيعي صفة جوهرية في البيئة المصرية» فقد ألقي هذا التجانس بظلاله على الشخصية المصرية وفقاً لنظرية «الحتم الجغرافي» فصار الفلاح المصري عمليا تطبيقا لما اسماه علماء النفس مهارات التوافق النفسي والإجتماعي فإبراهيم عسران تبنى لا شعورياً عدداً من إستراتيجيات التوافق النفسي الذي يعرفه علماء النفس على أنه سلوك إنساني يقوم على تحقيق توافق مع مطالب الحياة وضغوطها وتبرز هذه المطالب في شكل احتياجات نفسية اجتماعية تلعب دوراً أساسياً في تشكيل البناء السيكولوجي للفرد وفي تحديد طبيعة علاقاته بالآخرين من حوله. والملفت للنظر في موقف الفلاح إبراهيم عسران أنه ترجم فعلياً تصنيف عالم النفس كاتل Cattel لمهارات التكيف وقد انعكس ذلك التكيف على عددمن المستويات أولاً: على المستوى الاجتماعي الذي يعني انسجام الفرد مع بيئته التي يعيش فيها فلا صراعات ولا حروب ولا تمرد بل تسليم بالقدر وإيمان بالغيب وزهد في الحياة ولعل هذا الزهد يرد إلى التعلق القلبي عند الشخصية المصرية بفكرة الإله وبالدور الرباني في تقسيم الأرزاق وتوزيع الأدوار التي تجعل المصري متحالفاً مع القدر على ذاته فتهون طموحاته وتبهت الدنيا في نظره ومن هنا كان دور الدين عند المصري أكبر من مفهوم العقيدة بل هو فلسفة ماورائية تبني الجسور بين الروح الربانية في الإنسان والحياة الزائلة التي لا ينبغي أن نعول عليها، ثم يأتي المستوى الثاني من التوافق وهو العمليات النفسية الداخليه في الشخصية المصرية فهي عملية ديناميكية مستمرة هدفها التحرر من الضغوط والصراعات النفسية وقد عكسها إبراهيم عسران في إعراضه عن الشكوى وإحجامة عن تصدير المشكلات للخارج وما يميز البطل هنا هو أن كل تلك العمليات قد عبرت عن مستوى تصالح مع الذات ومع الحياة بشكل صحي وسوي فلم تكن وقوداً لمعركة نفسية أو صراعاً طبقياً أو حسداً للغير بل عبرت عن نفسها فيما يمكن أن نطلق عليه «الصبر الجميل» وفقاً للتعبير القرآني. أما المستوى الثالث من التوافق عند إبراهيم عسران هو مستوى التكامل أو Integration ويقصد به مدى تكاتف وتآلف طاقات الفرد من أجل تحقيق هدف معين فعلى ما يبدو أن الفلاح المصري كما ترسمه القصة كان يرى الدنيا دار فناء وزوال فلم يكترث بها ولم يحرص عليها بل حدد هدفاً عملياً وبسيطاً هو «أن نخرج منها كما أتينا» بلا أعباء ولا مسئوليات تثقل كاهلنا في الآخرة ولا عجب فالمثل المصري الشعبي يقول «الكفن ملوش جيوب»، إلا أن الملفت في موقف إبراهيم عسران من الحياة أنها تعد ترجمة سلوكية كاملة لتعريف سيجموند فرويد لمفهوم التوافق «بأنه قدرة الأناego على خلق حالة من الاتزان بين الأنا الأعلى super ego والأنا السفلى Id» حيث لاحظ فرويد أن بعض آليات الدفاع النفسية قد تؤدي إلى تحقيق التوافق النفسي عند استخدامها بشكل معتدل. ويبدو الأنا متزناً من خلال تنشئة إبراهيم عسران لابنه متولى الذي لم يرى في أبيه عيباً من ارتدائه لضيق الحذاء ولم يخجل من رؤيته لقدم والده المتوفي متورمة زرقاءً فاحترامه لفلسفة أبيه في الحياة ولمنطقه في التعامل مع الدنيا والمجتمع جعله يرى في أبيه قدوة ونموذجاً ومثلاً في الزهد وإنكار الذات.
** **
- د. عصام حجازي