أذكر جيداً عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية قبل عشرين عاماً تلك المرحلة الصعبة من حياتي التي مررتُ بها، التي غيَّرت جميع مجريات حياتي إلى الأبد. فجأة وبدون مقدمات، وأنا على كرسي الدراسة، انتابتني حالة من الخوف والفزع، نبضات قلبي أخذت بالتسارع، وتنفسي يضيق، العرق يتقاطر من جبيني، ثم يسيل كالشلال. أحسستُ بأني أذوب داخلياً وأتحلل. حاولت الهروب من هذا الشعور الغريب. نهضت من الكرسي. صاحَ فيَّ المعلم متعجبًا: ما بك؟! لم أُجبه. سرت نحو باب الفصل، وفتحته، وانطلقت أركض في ممرات المدرسة، وتوجهت لأقرب مخرج. لوهلة كنت قد فقدت الإحساس بمحيطي الخارجي، وفقدت السيطرة على جسدي، وحاولت أن أصرخ فلم أستطع، وكأني قد ابتلعت صوتي. وبعد محاولات فاشلة عدة من الصراخ الصامت خرج صوتي، ولكن لم أعرفه، وكأني أستخدم صوت شخص آخر؛ كان شاحباً ومترهلاً. انتبهت بعد دقائق أني خارج المدرسة، وأني أهيم على غير هدى في الطرقات؛ فجلست على الرصيف أُهدّئ من روع نفسي؛ وذلك حتى لا أضطر إلى اللجوء لشخص غريب في الشارع، مع ما كان يبدو عليّ من خوف وهلع؛ فيظن أني معتوهٌ، أو مصاب بلوثة عقلية، أو ربما حتى مس شيطاني. وبعد أن سكنت نفسي قليلاً وجدتني أمام أحد خيارين: إما الرجوع إلى المدرسة، أو الذهاب إلى المنزل. واستدركت بأنه إذا رجعت للمنزل ستقلق والدتي التي بدورها ستخبر والدي الذي بدوره سيترك عمله للقدوم للاطمئنان عليّ، وأنا أعرف تماماً الكم الهائل من الهموم والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، التي لم أدرِ وقتها كيف كان يطيقها؛ فقررت الرجوع إلى المدرسة على مضض بعد هذه التجربة الشاقة على نفسي والجديدة. وكانت هذه أولى خطواتي في تجربتي التي سأسرد تباعًا فصولها فيما يأتي من أيام.
** **
- أحمد يعقوب محجوب