كان ارتباطي بوالدتي - رحمها الله رحمة واسعة - عظيمًا وثيقًا، روحًا وجسدًا، لا أكاد أفارقها حضرًا أكثر من ساعات المنام أو الدوام، وسفرًا أكثر من أيام الحج، ولي معها في اليوم والليلة خمس جلسات راتبة، الوجبات الثلاث وجلستا شاي، لا أعتذر عن واحدة منها إلا لحاجة.
ولما واعدني د. عبد الرحمن العثيمين الساعة العاشرة مساء، حاولت استعجال العشاء تلك الليلة، فحال دون ذلك حائل أخرني عن الموعد ثماني عشرة دقيقة، فلما طرقت الباب لم أجد إجابة، فاتصلت بالجوال فلم أجد ردًّا، فعلمت أن تأخري وقع موقعًا سيئًا.
فلما كان من الغد أتيت مجلسه بعد المغرب، ولم يكن ثم أحد غيري، فقام سريعًا وجاء بالقهوة، لا يبتدئ الحديث، ويختصر الإجابة إن سألت، فاعتذرت عن التأخر ليلة أمس، فقال: لو اتصلت واعتذرت قبل! فما أحرت جوابًا، فالحق في جانبه، والصواب مجانبي!
كان - رحمه الله- يخبرني من قبل عن حرصه على الالتزام بالمواعيد، وعن حالات متعددة قابلَ التأخرَ بما يستحقه عنده من إلغاء الموعد، أو أكثر من ذلك، مع من لهم وزنهم سنًّا وعلمًا، فلم أكن جاهلاً بمنهجه، غير أني لم أقدر للأمر قدره.
بقيت فترة لا أغشى المجلس، وإنما أكتفي بالاتصال، كل أسبوع، بعد عصر يوم الاثنين، وقلت في نفسي: إذا كانت الإجابةُ كان اللقاءُ، فلما أذن الله به تحقق، بعد زمنٍ استغرق عملي بالرسالة وإتمامها.
نبع المودة قد يحسِرُ حينًا لكنه لا يجف، يبقى ما دام الفضل يَمُدُّه، والوفاء يرفده، والعرفان يصفيه ويزيده.
عدنا كما كنَّا، ما كان الانقطاع إلا ذكرى ما تخطُرُ إلا ويُصرف عنها الذهن، لم يجرِ لها معه من بعدُ ذكر ولا عتب، والإحسان يقيد الإنسان، فإن نفخ الشيطان في حظ النفس ليربو، هوَّنه الفضل المتقدم، ومن وجد الإحسان قيدًا تقيَّدا.
كان المرض إذ ذاك قد أخذ من أستاذنا ما أخذ، فكان ملازمًا بيته، يشكو ما أصاب قدمه من أثر مرض السكر، ولما أخبرته بموعد مناقشتي للرسالة، سرَّ بذلك، وقال لو كانت المناقشة في القصيم لتحاملت على نفسي وحضرتها، ولكن السفر يشق عليَّ.
لم أتأخر في نشر الكتاب بعد المناقشة، وإنما هي ستة أشهر مدة المراجعة والطباعة، فأهديته نسخته، فكان أول اطلاع بعد الانقطاع، ولقد رأى فيه جانب إجادة وإخفاق، ومن إحسانه أن نسب الإجادة لي، والإخفاق لغيري!
عِلمُهُ بالكتب مطبوعِها ومخطوطها في علوم اللغة والشريعة والرجال والتاريخ لا يشق له فيه غبار، شهد له به كبار العلماء والمحققين، أمثال السيد صقر، وعبد الخالق عضيمة، ومحمود شاكر، وحمد الجاسر وغيرهم، وقد صور لنفسه عددًا كبيرًا منها، لما تتبعها في زيارتها للمكتبات وخزائن الكتب في العالم، وكان يبذلها لمن يتحقق فيه شرط الجدية عنده، وربما صورها له مجانًا، وقد صور لي نسخة من شرح السيرافي نسخة دار الكتب (خمسة مجلدات كبار) وأهداها، فضلاً عن نسخة الغرة، ومن طريف ما حكى لي، أن طالبًا جاء يسأله عن كتاب ليسجله رسالة علمية، فأُعجب بالطالب، وتوسم فيه خيرًا، وكان للكتاب أربع نسخ، ثلاث منها عند أبي سليمان، والرابعة ليست عنده، ولكنه يعرف مكانها ورقمها، فأعطى الطالب النسخ الثلاث ليصورها، وأعطاه رقم الرابعة في مكتبة في تركيا، وبعد سنة كاملة عاد ذلك الطالب إليه، وقد نظم قصيدة يمدحه بها، ثم طلب منه الرابعة!! وعندئذ لم يملك أبو سليمان نفسه، فلامه أشد اللوم: لو كنت سأبخل عليك لم أعطك النسخ الثلاث، ثم إني أخبرتك بمكان النسخة الرابعة ورقمها، ولو ذهبت إلى تركيا زحفًا لوصلتها ورجعت في سنتك هذه، ثم إنك أتيت لتمدحني بقصيدة، أتظن أنك تستغفلني أو تخدعني؟! ثم قطع التواصل معه، لما خاب ظنه فيه. مر على هذا سنوات، وبينما هو في الطائرة في رحلة بين الرياض ومكة، وقد أخذ مكانه فيها، إذا برجل يأتي ويسلم عليه، ويدعوه إلى مكان خال بجواره، فظن أبو سليمان أنه ذلك الطالب، فاعتذر من غير تروٍّ، وقال: لن أفرط بجاري، قاله وهو لا يعرف ذلك الجار، وإنما هربًا من ذلك الطالب الخامل، فذهب الرجل، ولم يلبث حتى عاد وقال لأبي سليمان: أعرفتني أبا سليمان، أنا علي الزبن، (الشيخ الدكتور)، فاستدرك أبو سليمان، وعرف أنه قد وهم، والشيخ علي لا يفرط في جواره، يقول أبو سليمان، ولكن موقفي من جاري صار محرجًا، فلما حييته بما يستحقه، واعتذرت بالوهم، أردفت: حتى وإن عرفتك، فلن أفرط بجاري، لكن موعدنا إذا نزلنا من الطائرة.
لقد كان رحمه الله في أمر العلم صارمًا حادًّا، غير أنه كريم باذل، قد فتح بيته وصدره، ولم يكن صاحب دنيا، فلم يطلب ترقية، ولم ينتظر منصبًا، ولا طالبَ ناشرًا بثمن كتبه، أخبرني مرة أن (الخانجي) طلبه ليعطيه حقه من كتاب إعراب القراءات السبع وعللها، ومقداره ثمانية عشر ألف ريال، وذلك عام 1430هـ تقريبًا، و الكتاب مطبوع عام 1413هـ!!
رحمه الله وغفر له.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف في جامعة القصيم