د. عبدالحق عزوزي
هناك قاعدة دبلوماسية معروفة عند الدبلوماسيين المحنكين هي أنهم يكرهون المخاطبين غير المتوقعين. وليست هاته القاعدة على حد تعبير المحلل الدولي بيوتر سيمولار مسألة اختلال بين الأقاويل والأفعال - وهو داء عضال مستشر في أصول الدبلوماسية العالمية- ولكنها في صلب اللعبة السياسية؛ ولهذا السبب كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم مثلا منذ سنوات محدثا لهزة في النظام الأوروبي ومخلخلا للنظام الدولي بأسره، محدثا عند الأمريكيين والأوروبيين تنديدا وتهديدا واجتماعات متتالية ولكن وهنا وضعفا في صياغة استراتيجية واضحة المعالم. فكل الاتفاقيات الدولية التي كانت قد وقعت مع روسيا، بما فيها تلك المتعلقة باحتواء أسلحة الدمار الشامل والشراكات التجارية والاقتصادية لم تعتريها اهتزازات مدوية ولا بالدرجة المتوقعة كما أحدثتها العقوبات على عراق صدام أو على إيران، لأن روسيا دولة عسكرية قوية، وكانت أحد طرفي النزاع الرئيسيين في الحرب الباردة ولها حضور في السياسة الخارجية الدولية وصوت مؤثر في مجلس الأمن، كما أن لها أوراقا استراتيجية تستعملها ضد الغرب في سوريا وإيران وغيرهما...
ومنذ أيام حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من ألمانيا حيث حضر مؤتمر ميونيخ للأمن من أن روسيا ستواصل محاولة زعزعة استقرار «الديمقراطيات الغربية عن طريق التلاعب بشبكات التواصل الاجتماعي أو عمليات معلوماتية. وأضاف أنها ستفعل ذلك «إما عبر أطراف فاعلة خاصة أو عبر خدمات مباشرة، أو عبر «وكلاء»». وتابع قائلا إنها «ستكون طرفا فاعلا عدوانيا للغاية في هذا المجال خلال الأشهر والأعوام القادمة وفي جميع الانتخابات، ستبحث عن وضع استراتيجيات تمكنها من الحصول على وكلاء لها». ولاحظ ماكرون أن روسيا لم تكن الوحيدة في عمليات التلاعب هذه، إذ «تدخل فاعلون محافظون من اليمين الأمريكي المتطرف في الانتخابات الأوروبية»، في إشارة إلى داعمين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وتابع «ليس لدينا سوى بعض الدفاعات في مواجهة هذه الهجمات». ورأى أنه يجب «تعزيز الدفاعات التكنولوجية، والتعاون بين الأجهزة» الغربية لتشخيص و»تحديد» هذه الهجمات التي تبقى في أحيان كثيرة مجهولة المصدر.
يوحي لنا كلام الرئيس الفرنسي، وهو يعي ما يقول، إن البيئة الدولية المعاصرة أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيدا وأكثر غموضا من أي وقت مضى؛ ويكفي الرجوع إلى الكتاب القيم الذي ألفه منظر العلاقات الدولية وصاحب الكتابات المعتمدة الفرنسي برتران بادي Bertrand Badie لتمثل ذلك؛ إذ طور نظرية اختزلها في كلمتين «وهن القوة» واعتمادا على نظريات لإيميل دركاييم وهيغو كروتيوس أكد بأن القوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة... فلم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق، ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية. فكثيرة هي الأسئلة التي نطرحها معه ومع المنظر الأوروبي فريدريك شاريون ويمكن أن نختزلها في سؤالين اثنين: فأما السؤال الأول فيرتبط بقدراتنا الخاصة على قراءة العلاقات الدولية التي أصبحت جدا معقدة. وأما السؤال الثاني فيخص التمييز الذي أمسى أكثر فأكثر غموضا بين ما قد يرتبط بالمجال العقلاني والمجال اللاعقلاني.
كما أن روسيا في ظل هاته البيئة الدولية المعقدة ظهرت على شكل قوة تثق في نفسها وتستعمل أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل، وتؤثر بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية؛ فالرئيس الروسي يعي جيدا مفهوم القوة، وبالضبط المفهوم الذي أعطاه المحلل والمنظر الاستراتيجي الأمريكي الكبير جوزيف ناي، أي القدرة على تحقيق النتائج التي يريدها المرء، وتتباين الموارد التي تنتج هذه القوة في مختلف السياقات؛ فإسبانيا استغلت سيطرتها على المستعمرات وسبائك الذهب في القرن السادس عشر، وهولندا تربحت من التجارة والتمويل في القرن السابع عشر، وفرنسا استفادت من كثرة تعداد سكانها وجيوشها في القرن الثامن عشر، والمملكة المتحدة استمدت قوتها ممن سبقها في الثورة الصناعية ومن بحريتها في القرن التاسع عشر، أما هذا القرن فيتسم بثورة فتية في تكنولوجيا المعلومات والعولمة...