زكية إبراهيم الحجي
من منا لا يحلم بالعيش في مدينة فاضلة تكفل له حياة مثالية خالية من الحروب وما تسببه من آلام ومعاناة بشرية.. أو شرور وأمراض مجتمعية.. يُظلل سكانها الحب والوئام ويرفرف في سمائها حمام السلام ويتحقق فيها كل ما يتمناه دون مشقة أو عناء.. إنه حلم مستحيل وبعيد المنال.. فالمدينة الفاضلة ليست سوى مجرد حلم وضرب من سراب وأوهام على أرض الواقع.. لكن السؤال الذي يُطرح في هذا السياق لماذا تعلق فلاسفة التاريخ بأحلام المدن الفاضلة فاجتهدوا في تصورها ورسموا معالمها المثالية في خيالهم.. وألفوا كتباً وصبوا فيها عصارة أفكارهم وما استنبطوه من ثقافة العصور التي عاشوا فيها تحدثوا وأسهبوا بكل دقة في وصفها حتى أن القارئ لكتبهم بات يشعر وكأنه يعيش في مدينة تقع في كوكب دري تظلله نسائم السعادة والطمأنينة والنقاء والمثالية.
المدينة الفاضلة أو»يوتوبيا»كما يحلو للبعض أن يُطلِق عليها كونها لفظة يونانية ما هي إلا ضرب من التأليف غير الواقعي.. بل يمكن أن نطلق عليها الفلسفة المُتَخيلَة.. وأول من نادى بهذه الفلسفة الفيلسوف اليوناني»أفلاطون» من خلال كتابه «جمهورية أفلاطون».. حيث أضفى على جمهوريته شكلاً أدبياً على أحلام عصر ذهبي ومجتمعات مثالية تلازم خيال أي إنسان.. وحيث إن هناك حلماً مشتركاً بين الفلاسفة على مر العصور نحو إقامة مدينة فاضلة تمثل مطمح كل إنسان يصبو إلى السعادة والفضائل الخلقية.. والنقاء والمثالية في كل مجالات حياته توالت الكتابة الفلسفية عن المدن الفاضلة.. وتفاوتت الكتابة بين الكتَّاب في هذا الموضوع؛ فمنهم من سلك طريق الفلسفة في كتابته كالفارابي في كتابه «آراء المدينة الفاضلة» وتوماس مور الفيلسوف الإنجليزي في كتابه «اليوتوبيا» وغيرهم.. وفي عصرنا الحديث هناك من عَبَّ بطريقته صفحات روائية كالروائي»أحمد خالد توفيق» في تحفته الروائية «يوتوبيا» حيث التباين بين طبقتين.. الأولى تمثل الطبقة بالغة الثراء والرفاهية وهي «يوتوبيا» المدينة الفاضلة المحاطة بالأسوار ويحرسها الجنود وأخرى تمثل طبقة الفقر المدقع تعيش في عشوائيات ويتقاتل أفرادها على لقمة العيش وهي ما يُطلق عليها «ديستوبيا» أو عالم الواقع المرير.
إن تعلق فلاسفة التاريخ بأحلام المدن الفاضلة والإسهاب في تناولها إما من خلال الفلسفة.. أو من خلال الخيال الأدبي كالرواية لم يأتِ جزافاً، بل كان في حقيقته انعكاساً لواقع عصورهم وما شهدته من أزمات وحروب وغيره.. فكان أن توهمت عقولهم مدناً فاضلة مثالية وعجزت عن تطبيقها على أرض الواقع.. لقد ذهبت عقول الفلاسفة شرقاً وغرباً وخلقت تساؤلاتهم دائرية من التكرار حول مدن فاضلة ومجتمعات طوباوية صعبة المنال.
وبشكل عام فإن أقل ما يمكن أن يُقال في نقد كل ما بنته عقول الفلاسفة من أفكار وما رسمته في عالم الخيال حول المدن الفاضلة بأنها مناقضة لفطرة البشر وطبيعة الحياة ذاتها إذ لا يمكن أن يصل البشر إلى لحظة نهائية ساكنة هامدة لا يأتي عليها تغير أو تبدل أو تطور، ولطالما أشغلت مشاكل البشر عقول الفلاسفة منذ قديم الزمان فضرب كل ذي عقل فيها بسهم.. فمصيب ومخطئ إلا أن السؤال المطروح هل يصدقها الواقع أم يكذبها.