أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: إن عمق التديّن في ضمائر أمم أهل الإسلام والإيمان: كائن بالله سبحانه وتعالى، وبرسالاته عبر تاريخ الشرق الطويل؛ فوطن أمتنا تاريخياً هو مهد الديانات، ومهبط الرسالات؛ ولقد عرفت هذه الأمة روح التديّن، ولم تقف فقط عند طقوسه ومظاهره؛ فالتديّن ليس هامشياً يستكمل به الإنسان مظاهر دنياه؛ وإنما هو روح قائم حاضر في كل صغيرة وكبيرة من حياة إنسان هذه الأمة (أعني أمة الإجابة، لا أمة الدعوة).
قال أبو عبدالرحمن: إن حضارات أخرى قد وقفت بالعبادة الدينية عند طقوس وشعائر يؤديها الإنسان في أيام معلومة وأماكن محددة!!.. بيد أن الأمة المسلمة ترى في الإسلام أن كل صنيع خير يأتيه المسلم: يكون في كل لحظة من لحظات حياته، وفي أي ميدان من الميادين: هو عبادة دينية، وتديّن خالص للدَّيان ربنا سبحانه وتعالى بشرط النيّة؛ فلقد حدّد ربنا سبحانه وتعالى أن المهمة العظمى الوحيدة لخلقه هي أن يعبدوه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات/ 56).. وغير متصور أن المهمة الوحيدة للإنسان هي مواصلة الشعائر العبادية التي جاءت بها الشريعة من صلاة وصيام ... إلخ؛ ليمتلئ بها كل لحظات حياته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علَّمنا أن هذا ليس تديّناً؛ وإنما هو الغلو المنهي عنه في الإسلام؛ فقد نهى عن هذا الغلو أولئك النفر الذين أرادوا صيام النهار أبداً وقيام الليل دائماً والتبتل سرمداً رضي الله عنهم، ونبَّه أمته إلى أن دينها يسر، ودعاها إلى أن توغل فيه برفق؛ لأن الغلو تنطّع؛ والمنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى.. كما أنه لا عبادة معتداً بها شرعاً إلا بالعلم؛ والعلم: يستغرق معظم الوقت، والعمل للنفس والأهل والولد وخدمة الأمة؛ فكل ذلك عبادة مقدَّمة على استغراق الفرد بالنوافل؛ إذن فالعبادة التي هي الرسالة الوحيدة، والعمل الفريد للإنسان المسلم: هي كل عمل خير يأتيه الإنسان في هذه الحياة بدءاً من عمارة الكون، واستثمار الأرض، وسياسة الدولة، وإصلاح المجتمع.. إضافة إلى المتع الإنسانية المشروعة التي أحلَّّها الله؛ فكل فروض العين الفردية، والكفائية الاجتماعية، وسننها، ومندوباتها، ومباحاتها (أي كل نشاط إنساني تتطلبه عمارة الكون من قبل الإنسان): هو بعض من العبادة لله؛ وبهذا المعنى؛ وبهذه الإضاءة: نجد أن للتديّن في حضارتنا عمقاً وشمولاً لا نلحظهما في غيرها من الحضارات؛ وإذا كان بعض من الحضارات حوَّل التديّن (وهي في أصولها الأولى ديانة التصوّف المسالم، والسلام المتصوّف).. إلى ممارسة خالية من الروحانية، وإلى طقوس فقيرة في هذه الروحانية: فليس هذا هو حال حضارتنا المتديِّنة؛ ولهذا سرعان ما تحول أهل الطقوس والتصوّف إلى المروق والإلحاد.
قال أبو عبدالرحمن: والملاحظ أن عموم روح التديّن في البناء الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية؛ فلقد وجدناه يتعدى علوم الوحي والشرع إلى علوم الدنيا وفنونها: فهذا التصوّف عام في كل علوم التمدّن المدني، والإبداع الحضاري، وتنمية العمران البشري؛ وليس محصوراً فيما عرفته بعض الحضارات باللاهوت؛ فنحن أبناء حضارة مؤمنة ارتبطت فيها العلوم جميعاً بما فيها العلوم البحتة بالقاعدة الإيمانية.. إنها الحضارة المؤمنة التي يذكر فيها اسم الله سبحانه وتعالى في كل شيء.
قال أبو عبدالرحمن: كتب (التيفاشي) (580- 651 هجرياً) - رحمه الله تعالى - في الجيولوجيا (طبيعة الأرض).. وانظر كتابه (أزهار الأفكار في جواهر الأحجار)؛ فقد افتتحه بـ(الحمد لله، بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين... طبع كتابه بالقاهرة عام 1977 ميلادياً بتحقيق الدكتور (محمد يوسف حسن)، و(محمد بسيوني خفاجي)؛ وذلك على نحو ما يصنع الفقهاء في استهلال مصنفات الفقه الإسلامي.. وصنَّف الإمام (ابن حزم الأندلسي) (384- 456 هجرياً/ 994- 1064 ميلادياً) - رحمه الله تعالى - في الحب كتابه (طوق الحمامة) في الأُلفة والأُلاَّف؛ فاستهله بـ(بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.. أفضل ما ابتدئ به حمد الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله، ثم الصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله خاصة، وعلى جميع أنبيائه عامة).. وفي ختام كتابه هذا عن الحب قال: (جعلنا الله وإياك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين، آمين آمين، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).. فكأنه فيلسوف يصنِّف في فن الإلهيات!!
قال أبو عبدالرحمن: عفا الله عن هذا الإمام الجليل، والصواب في اعتقادي: أن يستغفر ربه لا غير، ولا يتغنَّى بالحمد والشكر في كلام عن الحب؛ وما أجمل ما قاله (ابن قيم الجوزية) - رحمه الله تعالى-: فيا رب غَفْراً قد طغت أقلامنا، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.