د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في التسعينيات الميلادية برَّأَ القضاءُ الأميركيُّ « أو. جَي. سيمبسون 1947م- « - وهو رياضيٌّ وممثلٌ أميركي شهير- من جريمة قتل زوجته السابقة وصاحبِها (1994م)، وأُسميتْ: «محاكمة القرن»، وكانت ملأى بثغراتٍ شكَّكت في صدق نتائجها، وقبل ذلك بثلاثة عقود اتّهَم القضاءُ نفسُه بريئين بقتل «مالكوم إكس 1925- 1965م وسُجنا عشرين عامًا، ولم يتوصل إلى أربعة متهمين أَفصح عن أسمائهم وسماتهم شريكُهم في الجريمة، وظهر «مسلسلان توثيقيَّان» عن الواقعتين بما لا مزيدَ على تفاصيلهما، وبما يؤكدُ نسبيةَ العدالةِ وتحيزَها وإغفالَها حقائقَ ودقائقَ واعتمادَها أَوهامًا وإيهاما.
** عدالةُ البشر محدودةٌ ومُقيَّدةٌ دون ريب، وأخطاؤُها متوقعة، وإذا تمَّ هذا في مؤسساتٍ مستقرةٍ وإثر محاكماتٍ مستفيضةٍ بقرائنَ وأدلةٍ وأيمانٍ مغلظةٍ ولجانٍ محلفةٍ فكيف لقضايا الثقافة المتصلةَ بعقول الملايين أن تُحاكَمَ عبر تغريداتٍ ومقالاتٍ يحتلَّ أسطرَها التوكيد والعزم «بإنَّ وأنَّ ولأنَّ وهو المطلوبُ إثباتُه».
** مررنا ونمرُّ بمتغيراتٍ مجتمعيةٍ يتكئُ معظمُها على أساساتٍ ثقافيةٍ ذاتِ أبعادٍ ممتدةٍ في عمق التاريخ، أو متداخلةٍ مع عاداتٍ البشر وأعرافهم، أو منطلقةٍ من معطياتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، أو ذات مساسٍ بعلاقاتٍ عالمية وإقليميةٍ؛ فتجري كلماتٌ عجلى من غير ذوي صلة تكتملُ دلالاتُها بجملٍ قطعيةٍ في مسائل ظنيةٍ لا يمكن فيها الجزم، وهو شأنُ الفكر؛ لا إجماعَ حوله ولا ثبات فيه.
** المشكلة هنا متصلةٌ بمسيرة الأوهام التي تسكن بعض العقول العامة ليجيءَ معهم أو إثرهم من يُؤصِّلها ويفصلُها ويتهمُ من لا يسلكُ مسارهم بالحَيدة والرِّيبة، وقد وُصمَ كُثُرٌ بسوءاتٍ ظالمة لخروجهم على السائد الخلافي أو رفضِه أو محاولةِ تقويمه، وتآليفُ العلمنة والَّلبرلة، والطائفية والمذهبية، والتصنيف والتجديف حكمت وما برحت تتحكم.
** التوصيف ليس مهمًا فقد سئمنا تكرارَه، والأهمُّ هو البحث في مبعث التخليط الثقافي والجور الحُكمي، وقد سبَقَنا بقرون الفيلسوفُ الإنجليزي «فرانسيس بيكون 1561- 1626م» - وهو عرَّابُ الثورة العلمية في الفلسفة- في اعتماده على الملاحظة والتجريب لا التُّهم والتّهويم، وهي مسؤولية الباحثين المعنيين بدراسات العقل الجمعي.
** تحدث «بيكون» عن أربعة أوهامٍ تعطي إشاراتٍ خاطئةً نحو مداراتٍ مُضللة، وهي: أوهام «القبيلة والكهف والسوق والمسرح»؛ حيث يتبع الإنسانُ أفكارًا يُحبُّها لمجاراتها الوضع السائد دون درايةٍ، وهذا هو وهم القبيلة، ويسكن الفردُ مغارتَه مطمئنًا إلى توافقها مع خلفياته المجتمعية والثقافية، وهذا هو وهم الكهف، ويجيء وهم السوق بسبب عدم الدقة في تحديد المصطلح، أما وهم المسرح فمصدرُه الاتباعُ الأعمى لما يبثه الرموز من غير تدبرٍ وتبصر.
** يبقى أن المدارسَ الفلسفيةَ العربية قاصرةٌ عن تخطي فلسفات «ابن سينا وابن رشد وابن عربي وعبدالرحمن بدوي والجابري وتلاميذِهم»، ولو أنصفْنا لأيقنَّا بدور الفلسفة في تعلية شأن العقل المؤسّس دون مساسٍ بالنقل المقدس.
** الإنشائيةُ تعميمٌ وتكميم.