د.فوزية أبو خالد
يشعر المتابع بجدية وزارة الثقافة ووزيرها الأمير بدر بن فرحان من خلال القول والفعل. فبعد أن كانت الكثير من أحلام المثقفين في جعل الثقافة خبزاً يومياً لكافة أطياف المجتمع لا تجد أذناً صاغية لتحقيقها على مستوى الفعل ولو بمبادرات فردية, صار بالإمكان ملاحظة عدد مما يبدو توجهاً نحو تحولات نوعية في العلاقة بالثقافة على مستوى رسمي وعلى مستوى المجتمع.
وأقتبس هنا من خلال المادة الموضوعية لما أقرأ وأسمع وألمس ثلاثة مؤشرات فقط ولكنها شديدة الدلالة باللغة السيسيولوجية على توجه واع نحو اعتبار الثقافة وجه البلاد الحضاري ومقياس صدق في التعبير عن المجتمع وطموح التقدم وليست عدوة إلا للجهل والتخلّف.
ومن هذه المؤشرات توجه الوزارة على ما يبدو لمشاركة عموم المثقفين في صياغة تصورات الحاضر والتصورات المستقبلية للعمل الثقافي عبر لقاءات مباشرة بينهم وبين الوزير وفريق العمل لسماع الآراء بما فيها كما افترض النقد والمقترحات, وبما أتوقع من المشاركين في هذه اللقاءات ألا يكون مجال للمجاملة فيها.
وهناك مؤشر التوجه على ما يبدو لتوسيع دائرة عمل الوزارة فلا يقتصر على بيروقراطي الوزارة وموظفيها، بل يعمل على خلق فريق عمل من أفراد المعترك الثقافي اليومي نفسه بمختلف الأجيال على ما أرجو.
وهناك الحراك المعرفي الحيوي بفتح باب التعليم والتعليم العالي للطلاب لمختلف التخصصات الثقافية في مؤسسات تعليمية جامعية وعليا عبر دول العالم. وهناك ليس أخيراً على ما أتمنى مؤشر التوجه لخلق هيئات مؤسسية متخصصة في معظم مجالات العمل الثقافي المعروفة من النشر والترجمة والفنون البصرية إلى الموسيقى والتفرّغ الثقافي ومدن الأدب, مثل الإحدى عشرة هيئة التي جرى تدشينها. وإن كان لا يزال من متسع على ما أرى لاستحداث ثلاث هيئات في مجالات لم يجر إدراجها بعد على أهميتها البالغة إن لم يكن الخطيرة، وفيما لو سألني الوزير عن تلك المجالات فلن أبخل عليه بالإجابة وتقديم تصور مكتوب لتلك الهيئات المرجوة التي لم يأت اجتهاد الوزارة على «طاريها».
وعلى كل فإن هذه المحاولات المبشّرة بإخراج الثقافة من معازلها النخبوية والرسمية وجعل رائحة قهوة الثقافة وعبير خبزها من النعم الحلال المباحة للجميع هو ما يجعلنا نأمل ويحدونا الحلم أن يمتد التحول في العلاقة بالثقافة في اتجاهين محددين أقدمهما هنا:
الأول اتجاه محلي، ليشمل العمل الثقافي محلياً كل أطياف المجتمع جغرافياً وفكرياً وجيلياً و»جندريا». فجغرافياً نأمل أن يمتد هذا الزخم الثقافي من فضاء المدن إلى ساحات القرى النائية البعيدة, وفكرياً لا بد من أن يتسع العمل أو على الأقل لا يضيق بمختلف مشارب الفكر، وجيلياً نرجو أن تشارك في العمل على هذا التحول جميع مكونات النسيج الاجتماعي من الرعيل الأول للثقافة ورموزها العاملة أو التي عملت في الظل والحرور إلى براعم الثقافة من أطفال الوطن, بحيث لا يقتصر المشهد على فئة الشباب وإن شكلوا قلبه وقبلته. أما «جندريا»، فلا مشتكى لأن وزير الثقافة أبدى حرصاً على حضور النساء في الواجهة الثقافية بقوة ووضوح.
الثاني اتجاه ثقافي عالمي, وفي هذا أعتقد أن هذه هي اللحظة المناسبة ليكون للمملكة حضور ثقافي دولي مختلف نوعياً على مستوى الشكل والمحتوى الثقافي عن ذلك الحضور الجانبي المتمثِّل في إرسال بعض الوفود الموسمية إلى هذه الدولة أو تلك والذي غالباً وكما شهدتُ لا يحضره إلا الوفد نفسه وبعض حاشيته من الطلاب السعوديين والقليل من الجاليات العربية. فإذا كانت بعض الاستثناءات الثقافية المعبّرة القليلة التي شاركت بها المملكة في مراكز دولية مثل مشاركات المملكة عبر الوفد السعودي الدائم بمركز الأمم المتحدة الرئيسي بنيويورك المميزة في يوم اللغة العربية أو في يوم الشعر العالمي أو في يوم الشباب وبأفلام سعودية الصنع أو عن السعودية كفيلم بلال أو فيلم يوم في الرياض, وكذلك مشاركات مسك وإثراء, قد استطاعت أن تشكك من اطلعوا عليها من المجتمع الغربي في قناعاتهم التنمطية عن المجتمع السعودي، فما بالك لو استطاعت وزارة الثقافة أن تخلق اتجاهاً مؤسسياً لتأسيس حضور سعودي ثقافي دائم في العواصم والمدن العالمية المؤثِّرة من سيدني وسنغافورة وماليزيا والهند واليابان إلى النمسا وجنيفا وروما وفرانكفورت ونيويورك ولوس أنجلوس ودي سي.
لقد بذلت مجهوداً متعمداً وفاحصاً بزيارة عدد من المراكز الثقافية الدولية في مدينة نييورك ومنها على سبيل المثال ليس إلا، المركز الثقافي الياباني في قلب مانهاتن والمركز الثقافي الإسباني والمركز الثقافي الهندي. ومن خلال المشاركة بالملاحظة الدقيقة لتلك الممثليات الرمزية لبلدانها اطلعت على الوجود النوعي الذي تحققه مثل هذه المراكز الثقافية لدولها ومجتمعاتها في قلب نيويورك ومرتاديها من سياح العالم ومن الوفود الدولية الزائرة للأمم المتحدة.. كما لمست لمس اليد الجمالية لتلك الجسور الثقافية النوعية التي تمدها تلك المراكز بين ثقافة بلادها وبين ثقافة البلد المضيف والثقافات البشرية العابرة له أو المستضافة فيه. وقد وقفت على أنشطة بعضها فوجدتها تمتد من تعليم لغاتها ببرامج مختصة للأطفال والكبار إلى مواسمها الثقافية الدائمة لمعارض وعروض التشكيل والموسيقى والسينما والفنون البصرية والسمعية الأخرى، بل وللألعاب وفنون الرقص والأزياء والمعمار والفلوكلور. وكانت تلك النشاطات محددة ومجدولة مسبقاً بما يعرف تواريخها طلاب الجامعات وأساتذتها وسواها من مختلف أعمار وخلفيات المرتادين, فهناك مثلاً مهرجان اليابان السينمائي الدائم للأفلام الجديدة بتاريخ ثابت في شهر جولاي من كل سنة, وهناك مكتبة قراءة ومكتبة سمعية وكلها مشحونة بمادة ثقافية جادة وغير دعائية.
لم أستغرب في جولاتي التي عادة ما تكون مزيجاً من الشغف الشخصي والرصد المعرفي وما لا يخلو أيضاً من غيرة وطنية داخل عدد من مراكز الثقافة بنيويورك أن دولاً مسعورة بالحروب كإيران أو مبتلاة بالقلاقل كفنزويلا لم يكن لديها مثل هذه المراكز الثقافية إلا أنني سأستغرب لو أننا في الصيف ضيعنا اللبن ولم نبادر اليوم قبل غد بالإقدام على التأسيس لمشروع ثقافي واحد على مستوى محلي ومشروع ثقافي آخر على مستوى عالمي يُشار إليهما بالبنان ويقدمان تجربة ثقافية شجاعة ورائدة في التوافق الوطني من ناحية وفي السلام العالمي من الناحية الأخرى كجناحيين خفَّاقين.