عبده الأسمري
في الطفولة يبقى الإنسان قريباً من الفطرة.. مسجوعاً بالبراءة مشفوعاً بالتلقائية مسكوناً بالعفوية.. ثم تبدأ شخصيته في التشكّل وتنطلق سماته في التشكيل.. كلوحة يرى ملامحها مع مراحل العمر ويشاهد مشاهدها مع مسيرة السنين.
تبقى «الإنسانية» الشراع الذي تتزن به سفينة «الحياة» لتمضى في بحر الدنيا المليء بالأمواج والمد والجزر والذي تتقلَّب فيه الظروف وتتبدل وسطه الأحوال.
الإنسانية هبة ربانية وموهبة ذاتية تولد في الإنسان تسكن عقله الباطن تحتل ذاكرته في أولى «مؤثّرات» العيش تعتمر وجدانه مع بداية «تأثيرات» التعايش.. ينكص إليها فيستمد منها «التجربة» وينتهل منها «الفائدة» ليطبّق المنافع في مراحل جديدة.
لم ندرس الإنسانية في مناهجنا بمفهومها «السائد» وتفاصيلها «المنوّعة» ولكن «القرآن الكريم» فصَّل المفهوم ووضَّح المعنى في كل الشؤون والمتون بدءاً من قصة قابيل وهابيل مروراً بمناهج الأنبياء مع أقوامهم وقصص الرسل مع عشائرهم ومنهجية سيد الأولين والآخرين نبينا محمد مع بلاءات القوم وابتلاءات المقرّبين وتشرّبنا تلك المناهج الفريدة في «علم النفس الإسلامي» الذي وظَّفها القرآن بالقصة والنتيجة والعبرة والاعتبار والصبر والنصر والمعطيات والعطايا فأصبحت «الإنسانية» سلوك حياة ومسلك عيش وأسلوب تعايش مستندين على «كتاب» وضع البصائر والمصائر في منهج فريد وأبان الحق منهاجاً والحلول سراجاً يضيء العتمة ويبدد الغمة وينير الدروب ويلغي المتاهات ويجبر الأنفس ويختصر الحل ويوظِّف العدل.
كل شخصية بشرية فيها «إنسانية» حاضرة بفعل الأخلاق وناضرة بواقع المعاني ومغيّبة بسبب الجهل وغائبة بدافع الأنا.. فإما أن تظهر في آفاق التعامل وإما أن تختفي في أعماق التجاهل لذا فإنها «نعمة» عظيمة ينالها المسكونون بالأثر والملهمون بالتأثير والمستلهمون للعطاء والمتيمون بالسخاء. ومحروم منها المتأبطون شراً المتلونون سلوكاً والناقصون عقلاً.
الإنسانية هي البلسم الذي يداوي مواجع «المكلومين» وهي المبسم الذي يرسم الفرح على وجوه المتعبين وهي الاسم الذي يبرز سمات «التآزر» والوسم الذي ينقش مظاهر «التآخي».
«الإنسانية» مبتدأ لخبر الفضيلة في جملة اسمية مفيدة خلاصتها «القيم» وعنوانها «الإحسان» وهي معادلة حياتية نتيجتها رقم صحيح في اختبار «البراهين» ومتراجحة دنيوية حلها عدد ثابت في حساب «الموازين».
للإنسانية نوافذ عدة تطل على مشاهد التعاون وتشارف على معالم التعاضد.. لتظل الجمال الحقيقي الذي يزيِّن وجه التواصل ويجمل ملمح الوصال.
بين «المواقف» و»الوقفات» تظهر الإنسانية وترتفع درجاتها في سلم «السمو» لترتقي في درس حياتي وتعلو في منهج دنيوي لتبقى «المنهل» الأبرز الذي يوزع إمضاءات الحسنى و»النبع» الأغزر الذي يفيض بومضات «المحاسن».
الإنسانية منهج جائل يجمع «البشر» تحت مظلة» الآدمية» ونهج مستديم يوحّد «الناس» في غاية «الاحتياج «ليبقى العنوان الأول لقصص «التعايش» والسلوان الأمثل لمصائب «الأقدار».
تظل الإنسانية مدرسة نموذجية لصناعة الصفاء وصياغة النقاء توزع مناهجها على تلامذة يبدأون قراءة وحفظ حروفها الأولى في تعلم العطف وفهم الرأفة وتوظيف الشفقة وتشرّب الرحمة واستخدام اللين ومعرفة الرفق واستلهام العفو لتكون وسائل للنجاح في مقررات التعامل والتفوق في اختبارات الظروف لنيل شهادة الإنسان وارتقاء منصات الثبات وحصد جوائز الحسنات.
الإنسانية أن ترحم أكثر وأن تعكس سماحة الإسلام في مواجهة العقبات وأن توظّف أصالة الإيمان في مجابهة العوائق وأن تنثر عبير التسامح أمام المخطئين وأن تشيع أثير الصلاح نحو الآخرين وأن تنشر تقدير الظروف حول المقصّرين وأن تكون «مصدراً» للنفع و»منبعاً» للفائدة وأن تتحوّل إلى عنصر فعَّال في النماء وعضو فاعل في الانتماء.
علينا أن نتعلَّم الإنسانية في كل اتجاهات حياتنا وأن نطبّق فوائدها ومنافعها في السراء والضراء وأن نتفنن في شيوع هذا المعنى العظيم في تعاملاتنا ومعاملاتنا وفي سلوكنا ومسالكنا لننهض بفكرنا ونرتقي بحوارنا ونعلو بقيمنا حتى نورث للأجيال دروساً عن «الإنسان» المختبئ خلف المصالح والمتواري وراء الذاتية ليظهر بقوة ويطغى بفاعلية حتى نكون مجتمعاً إنسانياً يسوده الوئام والتراحم.