د. حسن بن فهد الهويمل
شعراء أوغلوا في فن (المدح)، واتخذوا من الشخصيات الاستثنائية مثلهم الأعلى.
وآخرون اسْترفَدوا، وحسب. مدحوا من هب، ودب. واغترفوا غرفات من أعطياتهم، ثم مضوا إلى غيرهم. وكل قولهم كذب مضاعف: فني، وواقعي.
لأنَّ الأعطيات قليلة مقطوعة. والممدوح ليس على شيء من الشجاعة، ولا الكرم، ولا حسن الخلق، ولكنه الارتزاق، وشراء الألسن.
المدَّاح قد يَصْدُق مع نفسه، حين يغدق عليه الممدوح الأعطيات. وقد يصدق مع الواقع، حين يكون في الممدوح ما يقال فيه.
أما غير أولئك فليسوا مرتزقة. والأعطيات لا تكون همهم الأول، وليست هي المثير لكوامن مواهبهم.
هؤلاء يستحوذ عليهم الإعجاب، وإكبار الشخصيات المتميزة في مجتمعاتها. وهذا الإعجاب يحدوهم إلى الثناء، والاشادة، وإبراز القدوة.
يقول (العقاد) - فيما أظن- وهو يكتب في عبقريات الشيخين:
- أبو بكر أَحَبَّ فآمن.
- وعمر آمن فأحب.
بمعنى أن أبا بكر أحب الرسول قبل البعثة، فبادر إلى الإيمان بعدها بدافع الحب، والتصديق. وعمر كره الرسول بعد البعثة، وبعد إيمانه أحب الرسول.
وهكذا شعراء المواقف، ومن يمثلون شعراء الأمثلة العليا. تبدت لهم الأخلاق الفاضلة من شجاعة، وكرم، ونبل أخلاق، فأحبوا، ثم أبدعوا قصائد المدح التي لا تجعلهم من المدَّاحين الذين نُدِبْنا لحثو التراب في وجوههم.
عُرِف المثل الأعلى منذ (العصر الجاهلي)، فشاعر الحكمة (زهير ابن أبي سلمى) أحب في (هرم ابن سنان) كرمه، وقال فيه ما خلَّد ذكره. وبقدر إسراف (زهير) في المدح. أسرف (هرم) بالعطاء، حتى كادت العلاقات بينهما تتحول إلى أسطورة.
وفي صدر الإسلام نجد الشعراء: (حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وعبدالله بن رواحة) اتخذوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، مثلهم الأعلى، وليس كذلك (الأعشى) الذي أبدع في (داليته) أيَّما إبداع.
وعلى مختلف العصور برز شعراء، لم يكونوا مرتزقة، بل عَبَّروا عما يعتلج في صدورهم من حب، وإكبار، لشخصيات تميزت بأعمالها.
هناك شعر ذاتي، وآخرُ غيري، وليس من حق الناقد أن يميز بين النوعين، دون تفصيل. فكم من شعرٍ غيري يفوق بقيمه الأخلاقية غيره من الشعر الذاتي.
تميز (عمر بن أبي ربيعة) بالشعر الذاتي. و(طه حسين) في مقالاته التي استقى مادتها الشعرية من موسوعة الأدب القديم (الأغاني) للأصفهاني. وجمعت في كتابه (حديث الأربعاء). ألمح إلى هذه الذاتية المغرقة في (الرومانسية) و(النرجسية) وهي ذاتية سلبية، لا تحمل من القيم الأخلاقية ما يحمله بعض الشعر الغيري. وكم هو الفرق بين شعر الجمال، وشعر الجلال.
عَرَفْتُ ظاهرة (المثل الأعلى) عند ثلاثة شعراء:
- في مدائح المتنبي لـ(سيف الدولة الحمداني).
فهو مع سيف الدولة يمجد مُثُلَه. ومع (كافور الاخشيدي) يحقق طموحاته، ورغباته الجنونية.
- وفي مدائح (ابن عثيمين) للملك عبدالعزيز.
فمدائحه لم تكن لمجرد الارتزاق، بل للإعجاب، والإكبار.
(ابن عثيمين) أخرجته الفتن من وطنه، وأعاده الأمن الذي أنجزه الملك عبد العزيز إلى وطنه، وتلك مِنَّة لا تقدر بثمن.
و(عمر أبي ريشة) مع الملك فيصل، الذي وفر له الأمن، والكرامة.
هناك مئات الشعراء الذين مدحوا الخلفاء، والملوك، والسلاطين، والأمراء، والزعماء. وعبروا التاريخ، وانطفأت قصائدهم.
وآخرون اتخذ كل واحد منهم (مثله الأعلى)، وقال ما فيه، فخُلِّدَ القائل، والمقتول فيه.
(أبو تمام ) مع (أبي جعفر المنصور) و(البحتري) مع (المتوكل) و(المتنبي) مع (سيف الدولة).
وهناك عظماء لم يتهيأ لهم شعراء أمثال أولئك، ومن ثم لم يكن حضورهم بمِثْلِ حضور من هُيّئ له شاعر بمستوى شخصيته.
نجد ذلك عند (صلاح الدين الأيوبي) رحمه الله، لقد أنجز من الفتوحات، والأعمال ما لم ينجزه غيره، ومع ذلك لم يكن حضوره في المشاهد كحضور (سيف الدولة).
مع أن (صلاح الدين) سِنِّي، و(سيف الدولة) شيعي. حتى أن (المتنبي) اتهم بالقرمطية.
شاعرية (المتنبي) الاستثنائية سترت عيوبه، ومكنت (سيف الدولة) من الحضور المشرف في كل المشاهد، هو بلا شك بطل عربي.
حتى قيل :
- مَنْ أبْرَزَ مَنْ..؟
- هل كان بروز المتنبي بسبب مدحه لسيف الدولة، وحروبه مع (الروم) أم أن بروز (سيف الدولة) بسبب شهرة شاعره؟.
الفضل فيما أرى يعود إلى (المتنبي)، حتى لقد كُتِبَ عن(سيفياته) في سياق الإشادة، وكُتِبَ عن (كافورياته) في سياق الذم، والتنقص.
وتبقى ظاهرة (المثل الأعلى) بحاجة إلى مزيد من العطاء.
لقد شُغِل الشعراء: بالجمال، أو بالجلال. فمن استغرقه (الجمال) جَسَّده من خلال الحور الكواعب، حقيقة كانت الحسناء أو تخيلاً. ومن استغرقه الجلال جَسَّده من خلال العظماء.
لا أتوقع - حسب علمي القليل- أن أحداً من الباحثين كتب عن (المثل الأعلى) في الشعر العربي، على الرغم من أهميته، وطرافته.
جناية (النقد الحديث) إطلاق الذم لقصائد المناسبات. واستدباره للبعد الموضوعي، واستقبال الشكل، والبناء، وسائر الجماليات الأسلوبية.