حمد الجاسر
مراجعة وتعليق الدكتور القدير/ عبدالرحمن الشبيلي -عليه رحمة الله-
حينما تشرئب النفس، وتطفو المنى، وتتوق للكتابة عن عالم الجزيرة العربية، حمد الجاسر - عليه من الله شآبيب العفو والرحمة والغفران - فأنت أمام اختبار صعب عسير لقدراتك مهاراتك والعلمية والأدبية، فأنت أمام رجل بز الأقران، وفاق الخلان، حتى أرخت له العلوم بزمامها، والفنون بعنانها سيما فيما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية، معرجاً على الأنساب والبلدان والرجال، هو دائرة معارف وموسوعة علم تأتي على وصف كل شيء من صغير وكبير، أخضر ويابس، هين وجلل.
هو البحر من أيّ النواحي أتيتَهُ
فلُجّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُهُ
والشيخ حمد الجاسر ليس ممن يترجم له في أوراق أو كراريس، كان في السابعة والثمانين من عمره المديد الحافل عضواً في ستة مجامع علمية بارزة، في بغداد ودمشق والقاهرة، وهو من أبرز باحثي المملكة العربية السعودية بل هو الشريان الدافع للنهضة التعليمية الحديثة في المملكة، وله جهود عظيمة في إذكاء الحركة الثقافية السعودية من واقع كونه مؤرخاً وجغرافياً ومؤلفاً ومترجماً، ومؤلفاته غطت حقول المعرفة على تباينها، فهو يكتب في الرحلات والتراث والتاريخ والسيرة والأنساب والتراجم والقبائل وغيرها، وهو يعد بحق وحقيقة من أبرز القيادات التثقيفية التنويرية السعودية في العصر الحديث، ويعد الجزء الثامي من أحاديث السير والتراجم المعنون له بالعنوان التلاي: (أعلام معاصرون) دليلاً وثائقياً على موسوعية علامة الجزيرة العربية حمد الجاسر وثقافته التنويرية، وهو كتاب حافل بمباحث علمية، ومسالك بحثية مهمة، لا يستغني عنها مريدو المعرفة وطلاب العلم، يتضح هذا لك من النظر في فهرس الكتاب من أول وهلة، حيث يحفل هذا الفهرس بجمة من الموضوعات المهمة، وهو - عليه شآبيب الرحمة والغفران - ينتقل بقارئه بين رياض العلوم، وحلق المعارف، وبساتين الفنون، ويشرق بقراء أدبه ويغرب بهم منتقياً لهم أعذب الألفاظ، وأجمل التراكيب، وأصبح الحروف:
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
حمد الجاسر هو غواص الجزيرة العربية الماهر، وعلامتها الحاذق، الذي أطرب مسامعها بمعاجمه الجغرافية، وكتبه التاريخية، وتراجمه الأدبية، وأنسابه الثرية، فاختالت وباهت بقاع الأرض شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، بل يحق لنا أن نقول: بحمد الجاسر باهت الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية أعاديها، وفاخرت وحق لها ذلك، وعلَّ هذا الجزء الذي أمام ناظريّ أن يكون خير شاهد على ما أسلفت من قول وحديث، وفيه كلام لعلامة الجزيرة ذائع الصيت، نابه الحظ، نافذ السهم، لاسيما تلك الإرهاصات والمداخل الجميلة لأبحاث الكتاب ودراساته وقراءاته ومقالاته، أو الخاتمة التي ينهي بها الشيخ موضوعه، ويحكم إغلاق أبوابه، ورصد منافذه، وما يجري بينهما من سرد مضمون البحث، وهنا تتجلى ضخامة حمد الجاسر المعرفية، فهو طارق لكل ما يُطرق ومن تأمل تحليله الأدبي لديوان الشيخ ابن هليل -تجري على كل منهما وابل الرحمات- عرف طول النفس عنده، وشداده البأس، وروح الأمل والتفاؤل التي يسبغها على قراءاته ناهيك عن خلقه الرفيع في احترام علم العلماء، وأدب المتأدبين، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، روح التشجيع والتحفيز التي يبثها في نفس مريدي العلم والأدب وطلابهما - عليه رحمة الله - وفي هذا الجزء الميمون تناول الشيخ حمد مباحث عدة مهمة منها على سبيل المثال لا الحصر؛ -سليمان الدخيل أول نجدي مارس مهنة الصحافة، - السادات ما له وما عليه، - عبد القدوس الأنصاري أول من دعا إلى إنشاء مجمع لغوي، - أحمد السباعي شيخ الصحافة السعودية، محمد أحمد العقيلي ... أدركت مبكراً أن لديه ميولاً وعمقاً وحرصاً، محمد بن عبد العزيز بن هليل: أصدقاء عرفتهم ففقدتهم .. وغيرها كثير..
ومقدمات ومطالع أبحاث الكتاب سلسة جداً فيها روح الأدب، يقول تحت عنوان - أصدقاء عرفتهم ففقدتهم: محمد بن عبد العزيز بن هليل ما نصه: (ما أكثر ما يفجع المرء برحيل حبيب عنه إلى الدار الآخرة من قريب أو صديق أو ذي صلة به، ولا يبقى بعد رحيله سوى ما اختزنته الذاكرة له، من طيب الذكرى، وحسن الأحدوثة)، وتحت عنوان - حسن بن عبد الله آل الشيخ : الإنسان الذي لم يرحل. جاء قوله التالي : (إنها بسمة وفاء وحب وتقدير، لإنسان عاش بيننا فترة سعيدة من عمرنا، أحسسنا بعد رحيله عنا بسعادتها بالنسبة لنا). والشيخ عليه وابل الغفران حسن النية، سليم الطوية، يغلب عليه التفاؤل والاستبشار، يقول تحت عنوان ( دراسات نادرة في الذخائر الشرقية): (إن قيام اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي بنشر هذا الأثر العلمي لأحد علماء بغداد يدل أوضح دلالة على قوة الروابط الثقافية بين علماء العربية ومثقفيها في شرق البلاد وغربها، وشدة تماسكها، وهذا الترابط القوي مما يفعم القلب أملاً واستبشارة بأن هذه الأمة لا تزال بخير، وأن فرقت بينها الأهواء التي ... ثم تزول).
وأخيراً:
فالجاسر رجل رمز في تاريخ قلب الجزيرة العربية، بل هو وأيم الحق علامتها وعلاّمتها في آن واحد، وهو بركان مهم بأرضها ومواقعها وجبالها وقبائلها وأنسابها، قاده الطموح ليكون العلم والعالم، ودفعته الهمة ليكون الأدب والأديب في وقت واحد، هو صفحة نضيرة مشرقة من صفحات تاريخنا السعودي الماضي، وهو سفر متألق متطاول بارز من أسفار الصحراء.
عايش الناس وعاصرهم وتعايش معهم ثم انشق عنهم بطموحه ليكون شيئاً فذاً فريداً عظيماً، كما قال أبو العلاء المعري:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعله
عفاف وإقدام وحز ونائل
والشيخ حمد الجاسر إرادة لا تقهر وعزيمة لا تحبط وأقدام لا يتراجع وقد مد جزيرتنا العربية بما فيها من مواضع وقبائل وتراث وأدب بيد معطاءة دفاقة قصر عن مدها إلينا سواه...