سلمان بن محمد العُمري
الحمد لله على آلائه وقضائه وحسن بلائه وبعد:
فإنه ليشق على المرء أن يرى من يودهم ويألفهم وهم يغادرون واحداً بعد واحد، وحبيباً إثر حبيب، ثم يحاول أن يستجدي مواضعهم فلا يجد إلا ذكريات وعبرات وغصصاً يغص بها صدره وينقبض بها فؤاده وحسرات تتردد بين حناياه، وإنه لعسير أن تحاول الحديث عن راحل قريب، وفقيد عزيز له مكانة في القلب لا تنمحي، وإنه يعز علي أن أتحدث عن رجل كان متميزاً في خلقه الكريم مع الجميع، فكيف لي أن أنقل لكم الصورة الحقيقية للأخ الأستاذ أحمد بن محمد بن سليمان العُمري -رحمه الله- والذي كان وجهاً يبعث على الراحة وابتسامة لا تنطفئ، وروحاً إنسانية تفيض على من حولها أنساً ومحبة وسعادة، هذا الرجل الذي كان يحمل الود لكل الناس وقلباً يضم كل الأحبة وكيف أنسى طلعته البهية الباسمة وذكرياته الطيبة وسيرته الخالدة التي كان عطاؤها الوفاء وشعارها الحب والتضحية وعزها شرف المواطنة وكرم المشاركة ونبل الخلق.
في زياراتي له في البيت والمستشفى كان صابراً محتسباً، مع بشاشة لم تفارق محياه، حتى وهو تحت وطأة المرض، وشدة الألم. لم أستطع حبس دموعي بعد كل زيارة وهو ما لاحظه أبنائي عند مرافقتهم لي في بعض الزيارات، والدمع لم يخلق لأمري عبثاً، والله أدرى بلوعة الحزن، وإذا كانت الدموع كما يقال دليل المحبة لكنها ليست العلاج، وهي لغة إنسانية لا يجيدها إلا أصحاب القلوب الشفافة والمشاعر المرهفة.
لقد كان الأستاذ أحمد العُمري «أبا محمد» أنموذجاً فريداً في خلقه وتعامله وفي تكوينه، فكان مثالاً في الصبر ومكابدة الصعاب منذ صغره، توجه للدراسة في الخارج منذ تخرج من الثانوية في منتصف التسعينيات هجرية، وعاد سريعاً قبل أقرانه وزملائه لجده واجتهاده فلم يضِع وقته سدى، ولم يعتمد إلا على الله -عز وجل- ثم مثابرته وعزيمته، لاسيما وأن والده توفي وهو في المرحلة الثانوية، فشق طريقه حتى تقاعد وهو وكيل وزارة مساعد للمساعدات والضمان الاجتماعي.
كان يحظى طيلة مسيرته الوظيفية بتقدير من عمل معهم، وأما على مستوى العمل وعلاقته بزملائه، رؤساء ومرؤوسين، فقد كان محباً ومحبوباً لما وجد فيه الجميع من قلب سليم لا يعرف إلا محبة الخير للغير، ويحب لغيره ما يحبه لنفسه حتى نفذ حبه وهمسات قلبه إلى كل القلوب واخترقت كل العقول وتجاوزت كل الحدود، وكل من عمل معه في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، وفي وزارة الصحة، وفي وزارة الشؤون الاجتماعية، التقوا على محبة هذا القلب الصافي.
لقد وجد فيه الضعفاء والفقراء نصيراً ومعيناً عند الملمات وقضاء الحاجات، وكان أباً حنوناً ورؤوفاً، وكما يذكر ويشهد بذلك وكيل وزارة العمل للضمان الاجتماعي سابقاً الأستاذ الوفي محمد العقلا في نصرته للمستضعفين، وكان منافحاً عن حقوقهم، كما وجد المسؤولون فيه رجلاً أميناً وحكيماً وعوناً ومرشداً لهم، ولقد زان عمله وجلاه ما تحلى به من خلق رضي وطبع هادئ وزهد في البروز، ولقد كان إلى الصمت أميل منه إلى الكلام، وأصبح قدوة للعاملين بكلماته الطيبة، ويرفدهم بالمعرفة وبالأسوة الحسنة وبإخلاصه وتفانيه وحرصه على الإنجاز وخدمة الناس بكل أريحية، كان دؤوباً على العمل بحيث لا يعرف له يوماً يؤثر فيه الراحة ويخلد فيه إلى سكون حتى وهو في ظروف صحية تستوجب الراحة.
من الجوانب الإنسانية التي تذكر فتشكر للأخ أحمد -رحمه الله- أنه لم ينقطع، وعلى ما يزيد على ثلاثين عاماً عن التبرع بالدم، وحصل على شهادات شكر وتقدير، ووسام ملكي بذلك، وما عند الله خير وأبقى، وحينما يكون هناك مبادرات شخصية لعمل خيري ومساعدة محتاج يكون من السباقين بماله وبهدوء ودون منٍّ ولا أذى، وأما التواصل وصلة الرحم فحتى وهو في وطأة المرض وشدة الألم لم يقطع الحضور للمناسبات مباركاً أو عيادة مريض أو تشييع جنازة وهو المعذور في حالته والأحوج للراحة.
الناس شهود الله في أرضه والبعيد قبل القريب، والقاصي قبل الداني يشهد له على أعماله الخيرة، وكثير من الأمور تكشفت بعد رحيله غفر الله لنا وله.
لقد كان رحمه الله (ونيساً) في الحضر والسفر، لا تمل مجلسه وحيويته.
قبل ثلاثين عاماً سافرنا معاً مع أهلنا إلى تونس، وكانت من أجمل السفرات مع أبي محمد ففيها من المواقف والطرائف والأنس.
تلك لمحة من حياة هذا الفقيد العزيز، وإشارة إلى ما قدم لوطنه ومجتمعه من خدمات جليلة، وشيء من نبله و لطفه، ومعذرة إن لم يطاوعني القلم في نقل الصورة الجميلة عن الراحل فإن القلم ليرتد حسيراً حين يذكر عمق مودته ونبيل عاطفته وسروره بكل ما يسر الناس جميعاً.
أسأل الله تعالى أن يغفر له ويرحمه ويكرم نزله ويوسع مدخله، وأن يجازيه بالحسنات إحساناً، وعن السيئات عفواً وغفراناً، وأن يغسله بالماء والثلج والبرد، وأن ينقيه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأن يخلف عليه بدارٍ خير من داره وأهل خير من أهله، وأن يرزق ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يجعل ما أصابه طهوراً وتكفيراً له، ورفعة له في الدرجات وتمحيصاً للسيئات، وعوض أهله وذويه بما يبارك في عقبه.