د.عبد الرحمن الحبيب
«قد لا يخطر على بال كثير من القراء على سبيل المثال أن أول ممثل عربي في هوليوود هو خليل بن إبراهيم الرواف من مواليد بريدة 1895 ... مُنح فرصة التمثيل أمام نجم الويسترن المعروف جون واين مجسداً دور الحارس الشخصي لشيخ قبيلة في بغداد في فيلم (I Cover The War) للمخرج أرثر لوبين عام 1937».
هذا مقطع مجتزأ من فصل تحليل معلوماتي في كتاب «نحو دراسة الشخصية المحلية» لمؤلفه البروفيسور عبد الله البريدي، الذي عُرض بشكل عام دون الخوض في متنه بالمقال السابق. في هذا الفصل من الباب الأول طاف الكتاب منطقة القصيم بخضاب التاريخ أرضاً ومعاشاً، وما مرت به من أحداث، متلمساً سمات شخصية محلية ومستكشفاً طبائع المجتمع فيها.
وفيه تناول أصل كلمة «قصيم» في اللغة لدى ياقوت الحموي، ثم المنطقة لدى الأصبهاني: «القصيم موضع ذو غضا، فيه مياه كثيرة وقرى..». وقبل نحو الألف ومائة سنة وصف الهمداني (ت 945م) القصيم: «بلد واسع، كثير النخل والرمل. والنخل في حواء الرمل، وهو كثير الماء كثير الحصون». ولم يبخل ديوان العرب بسخائه التوثيقي على المؤلف بثلة من الشعراء، ومن ذلك قول النابغة الذبياني:
فكيف ترى معاقبتي وسعيي
بأذواد القصيمة والقصيم
وقول لبيد بن ربيعة:
أقام من بعد الثلاث عشرا
وإن بالقصيم منه ذكرا
وبعد أن رسمت ريشة الكتابُ اللهجةَ النجدية بعامة، والقصيمية بخاصة، باعتبارها سليلة لغة عربية فصحية، تحولت الريشة إلى فرشاة جغرافية واقتصادية لتشكل الفسيفساء الاجتماعية القديمة، مصورةً المكان (القصيم) كموقع إستراتيجي مذهل كونه على طريق الحاج الشرقي إلى الحجاز وقريباً من الكويت والعراق وليس بعيداً عن الشام، لكنه شحيح الموارد اقتصادياً؛ مما خلق في القصيم موقعاً مطمئناً مفتوحاً، يقابله اقتصاد قلق مغلق، فاضطرمت في رحابه صراعات جمة، أفضت - لضمان البقاء - إلى السعي للعمل الجماعي والمنافع المشتركة، وحس براجماتي لأهلها.
الباب الثاني، بدأ الرسم بفرشاة التاريخ الملبدة بألوان الثقافات المختلفة، من أحد عشر رحالة؛ أقدمهم الكابتن الإنجليزي جورج سادلير (1819) الذي عدَّ عنيزة «بلداً ذا أهمية كبيرة بالنسبة لغيره في هذه المنطقة، كما يعتبر مركزاً تجارياً»، مشيراً إلى مرور القوافل من البصرة والكويت والقطيف والأحساء والدرعية. أما الرحالة وليام بلجريف فقد أنجز لوحة ثرية ضخمة حين زار القصيم عام 1862، رسم فيها سلوك الناس وطرق العيش ونظام الأسواق والتجارة والزراعة، ومن ذلك قوله: «ويحق للقصيم أن تفخر بأن فيها أفضل أنواع النخيل، ولكن يستثنى من ذلك نخيل الخلاص في الأحساء..» كما وصف تنوّع الدكاكين والبضائع في بريدة، فسوق للجزارين والنحاسين والحدادين والخرازين.. وآخر يعج بالماشية والأبقار والخيول.. وسوق خاص للخضار والفاكهة غالبية الباعة من النساء وكذلك سوق البقالة والتوابل..
لعل الرحالة الأهم والأشهر هو تشارلز داوتي الشاعر والجيولوجي الذي سكن في عنيزة ما يربو على الشهرين عام 1878، وفيها كتب: «وثلث سكان القصيم ممن يعملون في قوافل التجارة التي تذهب إلى المناطق الأجنبية..». واصفاً تنوّع أسواق عنيزة، والدكاكين بأنها «مؤثثة تأثيثاً جيداً..» بينما البيوت «شبه خالية من الأثاث.. يتغطون بلحاف ليس إلا، ولم أر سوى القليل من الصناديق التي يضعون فيها ملابسهم».. ويستمر داوتي في رسم الشخصية القصيمية قائلاً: «وملابس الناس الخارجية هنا توحي باليسر، والناس هنا ملامحهم طيبة وودودين، وهم يحيون بعضهم البعض بكلام كثير..». ويصف القصمان بأنهم «ليسوا من عشاق الكرم» وبأنهم من «النوع الحريص». ومن الناحية الثقافية يشير داوتي إلى وجود أفراد يتمتعون بقدرات فكرية مميزة وإطلاع جيد في المسائل الفكرية والسياسية، ويقرأون في كتب ومراجع ثرية.
ومن أهم رسم اللوحات الحديثة تأتي فرشاة الأديب أمين الريحاني الذي بدأ رحلته عام 1922، عادَّاً عنيزة «باريس نجد، وهي أجمل من باريس إذا أشرفت عليها من الصفرا لأن ليس في باريس نخيل.. وقد تصغر عنيزة دون أهلها وهم زهاء ثلاثين ألفاً..» كما عدَّ بريدة: «أكبر سوق لبيع البعارين في البلاد العربية..».
الفصل الثاني رُسم بفرشاة الثقافة من المهتمين بالشأن الثقافي من السعوديين والخليجيين لتعكس جانباً من قصيم الحاضر متناولة أهم سمات الشخصية القصيمية، لتتكون 24 لوحة موزاييكية. بطبيعة الحال تفاوتت اللوحات من صور نمطية وغير نمطية بإيجابيها وسلبيها كانت الأخيرة أكثر إظهاراً للشخصية القصيمية.
«لا شيء يظهر شخصية المرء أكثر من الأشياء التي تضحكه»، على حد قول جوته؛ كما يقرّر هنري برجسون أن الضحك قد يلعب دوراً تصويبياً للعيوب الاجتماعية. ومن هنا اشتغل الفصل الثالث على فرشاة الفكاهة الهزلية من أجل تحليل جاد لكشف الراهن الاجتماعي، فـ «الضحك والاجتماع صنوان لا يفترقان»، فهناك نكت بريئة وأخرى غير بريئة. حلل المؤلف أربع نكت عن الشخصية القصيمية، أولها «النفط القصيمي المقري «بُه» 280 دولاراً!»
الفصل الأخير من الباب الثاني جمع اللوحات وأخضعها للتحليل بغية استخلاص صور نمطية عن سمات الشخصية القصيمية من وجهة نظر الآخر، لتكون خلاصة المنهج النوعي (الكيفي) وتكون مخرجاته بمثابة مدخلات للبحث الكمي في الباب الثالث الذي سيتم تناوله بمقال لاحق.