عبد الرحمن بن محمد السدحان
سئلتُ مرةً: هل ترى فجوةً بين التطوّر الإداري والتنمية بمدلولها المادي؟
فقلت: هذا سؤال معقَّد التكوين، والرد عليه أكثر تعقيدًا، وفي ظني أن ظاهرة الفجوة بين الاثنين.. عالمية الهوية، وخاصة في الدول الأقل تطورًا، وليست محلية الصنع والاختصاص لبلد دون آخر؟!
***
وأضيف قائلاً: إن هذه الظاهرة جزء من معادلة التغيّر الإنساني، مقارنةً بالنمو المادي، الأول بطيء الحركة والإنجاز، لأنَّ مدخلاته ومخْرجاته تعتمد على الإنسان المحفوف دومًا بقيم وطبائع وعادات تثقل حركتَه، وتقلّل من سرعة إنجازه، في حين أن النموَّ الآخر يعتمد على تسخير المادة، وتوجيه حركتها وديناميتها، كلا النمطين من النمو يسيران ويسيّران بفعل الإنسان، لكن النتائج مختلفة كيفًا وحركةً وكمًا!
***
هذه محاولة اجتهادية متواضعة لقراءة المعضلة التي طرحها السؤال من منظور إنساني، الفاعل والمفعول (من أجله) فيها هو الإنسان.. وهو مبتدؤها وخبرها، وهو بدايتها ونهايتها.
***
وأرجو ألاَّ يظن أحدٌ أنني بهذه (الفذلكة) الفلسفية (أعتذر) لظاهرة تخلف النمو الإداري عن نظيره المادي، لكنني أقرِّر حقيقةً نشهدها ونقرأها ونسمع عنها في أكثر من زمان ومكان، وقد تتغير يومًا إذا تغير الخَلْق المعنيّون بها تطورًا ونماءً وثقافةً وعلمًا، والأمل بعد ذلك ليس في ردم الفجوة بين نمطَيْ النمو، فذاك حلم قد يتحقَّق ولو بعد حين، ولكن في تضييقها ما أمكن، مع ضرورة الاستفادة من مخرجات التقنية الحديثة، كي لا تظل التنمية الإدارية أسيرة القصور الإنساني في أيِّ شكل كان!
***
تعلمت من الإنجليزية
الكتابةَ بلغتي الأم!
كنت وما برحت أتذكر ما قلته يومًا وأقوله الآن من أنني تعلمت من الإنجليزية كيف (يجب) أنْ أكتبَ بلغتي الأم، كنت في مرحلتَيْ الدراسة المتوسطة والثانوية (أحشو) كراسةَ الإنشاء إسهابًا في الكلام، أقرأه أول مرة.. فتعجبني صياغته، ويقرأه أستاذ الإنشاء، فيمسّه أحيانًا بعض ما مسّني إعجابًا، ثم أعود أنتقد نفسي بعد ذلك، كان بعض ما أكتبه في كراسة الإنشاء كلامًا مرسلاً بلا هدف حينًا.. وبقليل من المعنى معظم الأحيان، كانت الفقرة تبدأ بأول كلمة في السطر، ثم (تسيح) عبر السطور والصفحات التالية، بلا خطّة ولا تسلسل في الفكر أو الغاية أو المعنى.
***
وحين تعلمت بعضًا من (هندسة) الكلمة والكلام في سنتي الأولى بالجامعة في أمريكا، أدركت أنه لابدّ أن يكون للنصّ المراد إنشاؤه هدفٌ معلنٌ وآخر تفْصح عنه السطور، ولابد أن يكون له (خارطة طريق) تتلخص في الآتي: ماذا تريد أن تقول ولماذا؟ ثم ترسم بالحرف المعنى المرادَ بالنصّ، ثم تختمه بخلاصة لما سبق، وأيّ نتائج قادك إليه البحث والتأمل، وهذا هو تفصيل ما أوجزته يومًا في هذا الصدد! ومنه تعلمت الكثير!
***
ولن أنسى في هذا الصدد (نصيحة) معلم الإنشاء الأمريكي لي ذات يوم في سنتي الأولى بالجامعة، وكنت وقتئذ أحضّر نفسي لخوض التجربة الجامعية، حيث قال ما معناه: (هناك فورميلا) أو كيفية تهديك إلى التالي: إعرفْ بدءًا ماذا تريد أن (تقولَ) لقارئ سطورك قبل أن تخط حرفًا واحدًا، وهذه هي المقدمة، ثم أبدأ بتقديم موضوعك، وهذا هو المتن، ثم لخص لقارئك سطورك السابقة، وأخيرًا أختم نصَك بما تريدْ استنتاجًا، ولعلك بهذا تصل إلى منصة الصواب!
***
ذكرى معهد الإدارة العامة: شمس لا تغيب!
معهد الإدارة محطة مهمة في مشوار حياتي شهدت فيه ولادتي إداريًا، وشهد هو انطلاقتي في مسارات مضيئة جمعت بين (رومانسية) الأكاديميا و(فاعلية) التطبيق العملي لبعض ما أفرزته دراستي الطويلة في أمريكا، كنت أتعامل مع الكتاب والكتابة والمحاضرة، وفي الوقت نفسه، عشت تجربة الإدارة عمليًا.
***
أمَّا أجمل ما في تلك المحطة فيتَمثَّل في التجاذب الودِّي المباشر بين المشاركين في العمل في شراكة حميمة عبر سلّم هرمي يسير، يرى مَنْ في أعلاه العاملين في قاعدته من خلال منظومة من التلاحم اليومي المباشر وشبه المباشر، لم أشعر فيه يومًا بأن هناك فجوة من طقوس السلطة أو نواميسها تحول بيني وبين من بيده القرار!
***
والأهم من كل ذلك أن المعهد منحني فرصة ثرية للتعلم ميدانيًا عن الإدارة في بلادي عبر شرائح المتدربين الذين كانوا يفدون إليه من كل الأمصار، ومنحني كذلك فرصة التعامل مع الكتاب: بحثًا واستقراءً وتطبيقًا.