أ.د.محمد بن حسن الزير
منذ أن حلَّ الشيخ في رحاب الدرعية عام 1178هـ الموافق 1744م وبعد أن تم اللقاء التاريخي العظيم بين الإمامين (المحمدين؛ محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب) العظيمين في همتهما، وفي عزمهما، وفي شروعهما العملي في تحقيق الهدف السامي الذي اتفقت إراديتهما على تحقيقه (بنية صالحة وشغف تواق إلى مرضاة الله) ورغبة في جزيل ثوابه، وكريم عطائه وفضله وإنعامه؛ منذ تلك اللحظات الفارقة في التاريخ في الزمان والمكان دخلت (الدرعية) مرحلة سياسية واجتماعية جديدة، وفي تطور جديد في كيان (الإمارة) ورسالتها ووظيفتها وأهدافها، وانتقالها من كيان إمار ة (عشائري محدودة الغاية والاهتمام) إلى كيان سياسي يرتبط (بقانون دستوري عتيد صالح، وعقد اجتماعي موصول بالناس) أنتجه ذلك اللقاء، وتجاوز تلك الدائرة الذاتية المحدودة إلى (دولة ذات نظام وسياسة) وأبعاد والتزام، وتطبيق للنظام.
لقد كان ذلك اللقاء الخطير الحاسم بين الرجلين ولأول مرة قد وضع النقاط على الحروف، وأسس (لمرحلة جديدة) ذات أبعاد عميقة الأثر ليس على تلك (المنطقة النجدية المحدودة فقط) وإنما تجاوزت آثارها إلى آفاق (جزيرة العرب الأرحب؛ بله إلى آفاق العرب والعالمين) أجمعين؛ كما سطره التاريخ فيما بعد وصدقه! فقد كان لقاء واضحًا صريحًا شفافًا، كشف فيه كلٌّ منهم عن (حقيقته) وحقيقة نواياه وتطلعاته، وعبِّر عن ما يساور نفسه من هواجس وتساؤلات، وأبان (كلاهما) عن قدر كبير من (الوعي) بما هما مقبلان عليه من استحقاقات عظام ومسؤوليات جسام، وما ألقياه على عاتقيهما وأتباعهما من (متطلبات وتبعات).
يحدثنا التاريخ عن ذلك اللقاء وسجل وقائعه بكل وضوح ومصداقية فيقول برواية (ابن بشر 1/12):».. فسار إليه (محمد) فدخل عليه في بيت ابن سويلم ورحب به، وقال: ابشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر (بالعز والمنعة) فقال الشيخ: وأنا أبشرك (بالعز والتمكين) وهذه كلمة (لا إله إلا الله) من (تمسك بها وعمل بها) ونصرها ملك البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم.
« ثم أخبره الشيخ بما كان عليه (رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما دعا إليه، وما عليه أصحابه، رضي الله عنهم، من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه)؛ وأن كل بدعة بعدهم ضلالة، وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به، وجعلهم إخوانًا. ثم أخبره بما عليه أهل نجد اليوم من مخالفتهم (بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والجور والظلم)؛ فلما تحقق (محمد) معرفة التوحيد وعلم ما فيه من (المصالح الدينية والدنيوية) قال له: (يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد؛ ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين؛ نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا. والثانية أن لي على الدرعية قانونًا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئًا؛ فقال الشيخ: أما الأولى فابسط يدك؛ الدم بالدم والهدم بالهدم؛ وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك (الله) من الغنائم ما هو خير منه، (فوقع تحقيق ظنه، رحمه الله تعالى؛ فإنه أتى إليه غنيمة عظيمة، فقال له الشيخ: هذا أكثر مما كنت تأخذه على أهل بلدك، فتركها بعد ذلك) ثم إن (محمد) بسط يده وبايع الشيخ على (دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فقام الشيخ ودخل معه البلد واستقر عنده..».
وابتدأت (الدولة الجديدة) الفتية، في انطلاقتها، على بركة الله، على أساس مكين من (تقوى الله وهداه) تستقبل (طلبة العلم) من مريدي الشيخ وتلاميذه من العيينة وما حولها من القرى والبلدان، بعد ظهور كيان منيع ينصر الشيخ ويتبنى دعوته الإصلاحية الجريئة الواثقة؛ وحتى (عثمان بن معمر) نفسه، بعد أن استبان الأمر له ضُحى الغد، ندم على ما كان منه (ولات حين ساعة مندم) وانطلق لا يلوي على شيء « في عدة رجال من أهل العيينة ورؤسائها، فقدم على الشيخ في الدرعية وحاوله على الرجوع معه، ووعده نصره ومنعه، فقال الشيخ: (ليس هذا إليَّ؛ إنما هو إلى محمد بن سعود، فإن أراد أن أذهب معك ذهبت، وإن أراد أن أقيم عنده أقمت، ولا أستبدل برجل تلقاني بالقبول غيره، إلا أن يأذن لي، فأتى عثمان إلى محمد، فأبى عليه ولم يجد إلى ما أتى إليه سبيلاً، فرجع إلى بلده»(ابن بشر13/1).
وقد كان هذا المدد التعليمي المتمثل في هؤلاء الراغبين من طلبة العلم النهمين إلى التزود (بسلاحه) في هذه (المرحلة التكوينية) كما كان في قدوم ابن معمر على الإمام الشيخ عارضًا نصرته، ثم على الإمام (الأمير) طالبًا موافقته على استعادة الشيخ والفوز به، كانت دفعة معنوية (مهمة) للإمامين الصالحين، عززت موقفهما (معًا) ومكنت أساس دولتهما (الواعدة) وحققت تثبيتها دولة راسخة، تقوم انطلاقتها على أساس (الكتاب والسنة) علمًا وعملاً بعزيمة صادقة، ونشاط وثَّاب، في ثقة ويقين. وللحديث صلة.