د عبدالله بن أحمد الفيفي
أحقًّا تجنَّى (العقَّاد) و(المازني) بنقدهم الشاعرَ الذائع الصيت، (أحمد شوقي)، في كتابهما «الديوان»؟
لا شكَّ أن شوقيًّا كان ناظمًا ممتازًا، وإنْ لن تَعْدَم لديه ركاكةً في النظم أحيانًا، أعياه أن يتخطَّاها اقتداره على الصَّوغ والتركيب. تجد ذلك في مثل قوله: «ليس الصَّليبُ حديدًا كان...»، في بيته:
يا فاتِحَ القُدسِ خَلِّ السَّيفَ ناحِيَةً
لَيسَ الصَّليبُ حَديدًا كانَ بَلْ خَشَبا
فجمعَ ناسخَين، «ليس» و»كان»، لمَّا أعياه أن يصوغ البيت صياغةً مستقيمة الوزن. وتلك تحدِّيات البحور الشِّعريَّة لمن يركبها! وإنَّما قوله «ليس الصَّليبُ حديدًا كان» بمعنى: «لم يكن الصليبُ حديدًا قط»، غير أنَّ مضائق الوزن ألجأته إلى هذا التركيب الملتوي: «ليس الصَّليبُ حديدًا كان»! ولقد كان سيؤدِّي معناه، بشِعريَّة أفضل، وسويَّة أسلوبيَّة متَّسقة، لو قال، مثلًا:
يا فاتِحَ القُدسِ خَلِّ السَّيفَ ناحِيَةً
هَلِ الصَّليبُ حَديدًا كانَ؟ أَمْ خَشَبًا؟!
وصيغة الطَّلب والتساؤل أشعر من صيغة الإخبار والتقرير. ولا ريب في أن في مذهب (شوقي) الشِّعريِّ صنعة بديعيَّة، أكسبته من الموسيقى الداخليَّة أشجاها، على طريقة (البحتري)، الذي أراد أن يُنشِدَ شِعرًا فغنَّى، كما وصف القدماء. أمَّا ما وراء ذلك، فليس شوقي، في معيار الشِّعر الصُّراح، بهنالك. غير أنه نموذجٌ من نماذج ما، أو مَن، يُؤسطِره الإعلامُ والصِّيتُ العريض، فإذا تأملتَ نتاجه خيَّب ظنَّك أحيانًا كثيرة. وأوَّل ذلك الصِّيت الفارغ ينبثق من لقب «أمير الشُّعراء» نفسه، الذي وُلِد في ثقافتنا في أكناف الطاووسيَّة العثمانيَّة، ببَشَواتها، وبَكَواتها، وبَهَواتها، إلى آخر القائمة الطويلة من الألقاب التشريفيَّة، عبر عصور الانحطاط المتعدِّدة، التي لا أصل لها لا في تراث العَرَب، ولا في الثقافات الأدبيَّة المتحضِّرة.
منذ كتبتُ دراسةً استقرائيَّةً حول الموسيقى الداخلية في شِعر (شوقي)، تحت إشراف أستاذنا الدكتور (محمَّد الشامخ)، طيَّبَ الله أيَّامه، خلال مرحلة الماجستير، وأنا كلَّما أقبلتُ على قراءة «الشوقيَّات» ما لبثتْ أن صدَّتني عنها بالسَّطحيَّة النثريَّة والنظميَّة النمطيَّة.
ثمَّ إنَّك معاقرٌ في شِعره من التكلُّف، بلا طائل، ما لا تجده عند سواه، حتى عند (أبي تمَّام)، سيِّد الصناعة البالغة درجة التصنُّع أحيانًا، ومن الحرص على البديع الذي قد يُحيل المعنى عن وجهه بلا مَساغ.
قل لي، بربِّك، ما معنى قوله، على سبيل المثال:
ظِباؤُهُ المُنكَسِراتُ الظُّبا
يَغلِبنَ ذا اللُبِّ عَلى لُبِّهِ
بِيضٌ رِقاقُ الحُسنِ في لَمحَةٍ
مِن ناعِمِ الدُّرِّ ومِنْ رَطْبِهِ
ذَوابِلُ النَّرجِسِ في أَصْلِهِ
يَوانِعُ الوَرْدِ عَلى قُضْبِهِ
والسؤال هنا عن هذا البيت الأخير تحديدًا.
إنه الحرص على المجانسة: (ظِباؤُهُ.. الظُّبا)، والمطابقة: (ذَوابِل.. يَوانِع.. أَصلِه.. قُضبِه)، ممَّا كان يورده موارد هذا التأليف غير المتَّسق تصويريًّا. فإذا كان في قوله «يَوانِعُ الوَرْدِ عَلى قُضْبِهِ» معنى جماليٌّ مقبول، فكيف تكون الجميلات «ذَوابِل النَّرجِسِ في أَصْلِهِ»؟ ولماذا هن ذوابل؟ إنْ كان على سبيل وصف القوام بالرشاقة، فالعَرَب تشبِّه القامات الرشيقة بالرِّماح الذوابل. لكن ما شأن (النرجس) بهذا؟ ثمَّ ما معنى «في أصله» هذه؟ ليس ثمَّةَ إلَّا استيفاء التقابل بين كلمات الشطرين، وإنْ بغير معنى: (ذَوابِل- يَوانِع/ أَصْلِه - قُضْبِه)!
وعبيد البديع هؤلاء طالما درجوا على التضحية بالمعنى على مذابح الألفاظ البديعيَّة. غير أنه لم يكن إلى هذا الحدِّ ما كنَّا نقرأه لدَى أسلاف هذا الجيل المتأخِّر من شعراء ما نُعِت بـ»الإحياء والنهضة». ما هكذا كانت تُوردُ الصنعة البديعيَّة لدَى (صفيِّ الدِّين الحِلِّي)، أو (ابن نباتة المِصْري)، أو (الشابِّ الظريف)، وأضرابهم، من شعراء القرون من السابع الهجري إلى الثاني عشر. نعم، لقد كان البديع لدَى هؤلاء يُزيغ المعنى عن مساره الطبيعي، لكنه لا يحيله إلى سرابٍ بقيعة، من نحو ما نجده في بعض الشَّوقيَّات.
لا يخفَى ما انطوت عليه مواقف (العقَّاد) و(المازني) النقديَّة من تحاملٍ على (شوقي) وعلى غيره، في كتابهما «الديوان»، ومن تكلُّفٍ للطعن في الشِّعر والنثر، مع تعصُّبٍ ثقافيٍّ وعُنصريَّةٍ اجتماعيَّة، وكأنَّما النقد الأدبي- كما مثَّله كثيرٌ ممَّا جاء في كتابهما- لا فرقَ بينه وبين «رَدْح» المتلاحين في شوارع (القاهرة)! هذا إلى اتِّخاذهما الغربيَّ معيارًا، لا يعلوه معيار، يولِّيان وجهيهما شطره لمحاكمة الأدب. ولا تسل بعدئذٍ عن اختلاف الثقافة واللغة والذوق. تجدهما ما يفتآن يردِّدان: «تُرَى ماذا عسَى يكون رأي الغ ربيِّين إذا اطَّلعوا على هذا؟!» لسان حالهما: «واخزياه من بني الأصفر!»، أو بالعاميَّة: «يا شماتة أَبْلة أوربا فينا!»
ولئن كان ذلك كذلك، فالحقُّ أنهما- في غير وجهٍ- كانا يلحظان ثغراتٍ فنِّيَّةً في تجربة (شوقي)، والتواءً في أسلوبه، وتعمُّلًا في تعبيره، لم يقوِّما أود شيءٍ منه، بل زادا طينه بلَّةً؛ ليُسهِما- إلى فساد الشِّعر الذي ينقدان- في فساد الخطاب النقديِّ الذي يزعمان.