سهام القحطاني
هل يتشكل الإنسان فكراً أم يتشكل الفكر إنساناً؟
* فارس الفكر والثقافة.
يرتبط اسم خالد الفيصل سواء على المستوى الشخصي أو مستوى المسؤول «بالثقافة والإبداع والفكر» وكأن هذه الثلاثية قدره و قراره، ثلاثية تدخل ضمن اختبارات التحدي والإنجاز التي اختارته فغلبها ببصمة أثر وظلال تأثير، ولذا لا نندهش عندما يتحول السؤال كونه خالق الكينونة المعرفية إلى جدلية فكرية عند خالد الفيصل.
«وهل للسؤال أثر في الحياة..وبتعبير آخر: هل للسؤال ثقافة.. وما هي ثقافة السؤال»- ص122-
فالسؤال هو ثقافة تُعين على استنباط المعرفة واكتشاف حقيقة الأمور وصدق القول، وبدونه كما يقول الفيصل قد نعاني من «استباط المعرفة.. والبحث بالتجارب القاسية عن حقيقة الأمور.. والتركيز في الاستماع.. وعلى العيون التي لا تكذب نظراتها.»123.
فالسؤال يختصر التعلّم ويحمي من قسوة التجريب والإحباط، وبدونه تصبح تجارب الاكتشاف والتعلّم ليست سهلة وتحيطها «القسوة والإحباط وخيبة ظن.. بالإضافة إلى الوقت، فما يمكن التعرّف عليه بطرح سؤال وتلقي إجابة.. توصلت إليه بتجارب طويلة أليمة لأجد استجابة.»ص142. فالتجربة الإنسانية بمكوناتها المختلفة خارج مؤشرات السؤال هي نضال معرفي وكفاح فكري.
«هل شخصية الإنسان تولد معه؟ أم تتشكَّل مع الأيام والأحداث؟»ص124- سؤال يطرحه الفيصل ليبتسم ويمشي.. ويجعلنا نحن «من نقرأه».. نفتش عن الإجابة داخلنا وداخل تجاربنا وظروفنا الاجتماعية والإنسانية وملتقياتنا وفي كل ما نقرأه ونسمعه ونلاحظه ونتعلمه.
كيف نتشكل فكراً؟ كينونتنا يشكلها التأثير والأثر، فكل شيء حولنا منذ ميلادنا حتى اللحظات الأخيرة هي التي تُشكلنا فكراً وإنسانياًً، فالإنسان هو «أثر و تأثير».
خالد الفيصل مسؤول يختلف عن غيره من المسؤولين ليس لأنه رجل قدره التحدي والإنجاز، إنما -أيضا- لأنه»مؤسِس رؤية فكرية ومنجز ثقافي»، وحامل لواء التجديد الفكري سواء في تشكيله أو مضمونه، بمرتبة مسؤول.
فهو في كل منصب يعتلي صهوته فارس ثقافي يترك بصمته الفكرية،ليس لأن هذا واجبه كمسؤول، بل لأن هذه هي طبيعته القدرية،وهي طبيعة تشكلت بتأثير أشياء كثيرة.
«كثيرة هي التجارب التي مررت بها،فهل هي التي شكلتني فكراً.. هل هي الغربات؟ أم المدارس والجامعات؟ أم أنها مجالس الرجال؟ أم الاستماع والملاحظات؟ أم أنها مجالس الرجال؟ أم الاستماع والملاحظات؟ أم أنه المجتمع؟ والرفاق والأصدقاء؟ أم التقاليد و العادات؟ أم الفطرة؟.» ص124
كل تلك المصادر أسهمت في تشكيل فكر خالد الفيصل ووجدانه الثقافي وقبل التأثر كان الاستعداد الفطري، فلولا قابلية الاستعداد ما حدث تأثير المؤثِّر، إنها نظرية الخلق الوجداني التي تعلّمناها من علم النفس، فنحن لا نستطيع أن نخلق مبدعاً بلا موهبة،ولا مٌنجِزا بلا رؤية،ولا مجددا بلا فكر،وهذا ما يجعل تجربة خالد الفيصل الإنسانية على مستوى التحدي و الإنجاز والثقافة والفكر مختلفة عن غيرة من الأمراء الذين تقلدوا مسؤولية الإمارة أو الشأن العام.
كل مصدر من مصادر تشكيل فكر الفيصل كانت له بصمة أثر في حياته وسلوكه المعرفي والفكري، فقد تعلّم الفيصل من المجالس الفكرية التي كان يحضرها منذ طفولته السؤال والحوار والمشاركة واحترام الاختلاف الثقافي، ثم سار على هذا النهج عندما أصبح مسؤولاً ليفتح بابه للمثقفين والمفكرين والمبدعين حتى أصبح بدون منازع الأب الروحي لهذا النهج القائم على «الحوار الثقافي والفكري»منذ إن كان مسؤولاً في رعاية الشباب ومنتدى الأربعاء» الذي كتب عنه الشيخ حمد الجاسر في مجلته العرب»، وكان أول منتدى ثقافي في الرياض، مقره منزله «حضره كبار المثقفين وشبابهم من السعوديين والعرب الموجودين»ص133
وقد تنوّعت موضوعات تلك المجالس لتشمل القضايا الجدلية مثل الحداثة وقصيدة النثر والصحوة، كما أسس الفيصل المجالس المتخصصة وهي مجالس أسبوعية لكل فئات المجتمع «و نجحت الفكرة أيّما نجاح، واستمرت إلى الآن في مكة»138
حتى أصبحت المجالس الثقافية التي أسسها ورعاها»إرثاً تستحق الدراسة، بل وتستحق التطوير والانتشار لأنها خصوصية سعودية تكاد تنقرض»ص132 .
*طائر يٌحلٌق خارج السرب.
في كل منصب يعتلي صهوته الفيصل كان الشأن الثقافي والفكري من أهم إنجازاته، فهو يسعى دوماً إلى تأسيس بنية علمية وثقافية وفكرية في كل مكان يتولى مسؤوليته بدءاً من المجالس الحوارية والمشاريع الفكرية والمرافق الثقافية، والكليات العلمية، والمراكز الخيرية والجوائز العلمية العالمية، بداية من رعاية الشباب وربطها بالثقافة والحوار ثم عسير وصولاً إلى المشروع التنموي الفكري و اللغوي «كيف نكون قدوة».
لم تتحول عسير في عهد الفيصل إلى القبلة السياحية الأولى في السعودية والخليج، بل أصبحت إضافة إلى ذلك «مزاراً ثقافياً وفنياً وفكرياً»في عهده، فقد رعي إنشاء نادي أبها الأدبي «الذي تصدر إنجازات ونوادي المملكة، لسنين عديدة بشهادة رعاية الشباب»136، وأسس مسرحاً في المفتاحة ليصبح أكاديمية للفن التشكيلي وساحة ثقافية وفنية؛ لأنه مؤمن بأن التنمية الثقافية هي من رواسخ أي نهضة وحضارة.
كما أسس ملتقاها الثقافي، لأنه استشرف لهذه المنطقة مستقبلاً ثقافياً وقد حصل فقد وجد «في عسير استعداداً فطرياً وطموحاً شبابياً، ونماذج بنبوغ فكري ثقافي أدبي علمي، ينتظر الفرصة للإبداع».. فساعدته في مسعاه لإنشاء نادي أبها الأدبي، وملتقى أبها الثقافي، ودعوت أساتذة الفكر والثقافة في البلاد للحوار والبناء»-84-، وفي عسير أيضاً وبرعاية الفيصل تأسست أقوى صحيفة سعودية، وقوتها هنا تبرز في منهجها الفكري والإجرائي الذي تميزت به عن بقية صحف المملكة وهي «صحيفة الوطن» «وقد كان صدورها في ذلك الوقت وبذلك المضمون وتلك الصورة، عنوان نقلة حديثة وجريئة في الصحافة السعودية»137
وتعود الريادة إلى خالد الفيصل في تأسيس «الفكر الخيري» في السعودية من خلال مؤسسة الملك فيصل الخيرية، «أول مؤسسة خيرية من نوعها في المملكة،.. قدمت أسلوباً استثمارياً مميزاً للوقف على المؤسسات الخيرية.. وارتأى المؤسسون بأن تتخصص أعمالها في النواحي الثقافية، فالثقافة هي مفتاح الحضارة ولمفهوم النهضة إشارة»139»
خالد الفيصل مبدع ومؤسس لرؤية فكرية سعودي عربي ومسلم، لذا لم تكن المسؤولية الفكرية التي التزم بها الفيصل بينه وبين نفسه ثم من خلال رابط الإنجاز الثقافي والفكري المحلي، محصورة داخل إطار الوطن، بل هي مثل مخيلته الإبداعية طائر محلق خارج السرب يتجاوز الأفق والحدود، ومن هناء جاءت فكرة مؤسسة الفكر العربي، التي استطاعت أن تقدم دراسات ثقافية وفكرية وتنموية عجزت عنها هيئات دول، وأن تمثّل رمزية للوحدة الثقافية العربية في مؤشر حقيقي، و»طرح فكر نهج جديد للنهوض بالأمة العربية»134.
وهي «مبادرة عربية تضامنية بين الفكر والمال» تملأ الفراغ الثقافي المعاصر وتجسر الفجوة بين المفكر والمسؤول ولا تمثّل أي تيار سياسي.»
*رؤية التجديد ومشروع كيف نكون قدوة.
عندما ترصد مسيرة الفيصل كمسؤول ومبدع تجد أن أقرب وصف له هو «المجدد» ففي عسير قدم صورة جديدة ذهنية وإجرائية وثقافية للمنطقة كما فعل قبل ذلك مع رعاية الشباب ثم في منطقة مكة المكرمة وخارطته الثقافية والفكرية التي خطها لنفسه فالقراءة المتأملة لتلك المسيرة توصلك أنه يمتلك عقلية التجديد، و استطاع أن يؤسس خلال مسيرته نهجا جديدا أنعكس ظلالها على إنجازاته.
ولذا لا عجب عندما يرى أن رؤية 2030 هي اكتمال النهج الجديد الذي بها سنعيد اكتشاف أنفسنا كسعوديين حضاريا، وتأهيل قدراتنا للمشاركة في المنجز العالمي، لأننا كسعوديين القدوة في إنشاء نماذج التأثير والتطبيق «فلنجعل المنهج الجديد ابتكاراً ليكون للمسلمين خيار أساسه المبادئ الإسلامية ثم اكتساب العلوم العصرية والاستفادة من التجارب الإنسانية، وهكذا نكون قدوة.»177 كيف.؟! نستطيع فعل ذلك إن أصبحنا قدوة لغيرنا، بدأنا بأنفسنا قبل طلب غيرنا،.. لنا مجد نريد أن نجدده، ولنا صوت نريد أن نردده، ولنا عهد نريد أن نؤكده،.. وأن نثبت للعالم أجمع أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأن السعوديين أحق بتأكيدها، فهل نفعلها؟ إن لم.!! فمن..؟!
إن مشروع كيف نكون قدوة الذي هندسه الفيصل يقوم على إعادة صياغة الإنسان السعودي نهجاً وفكراً وسلوكاً، وتشكيل الشخصية النهضوية ضمن ضوابط مبادئ الإسلام الصالحة لكل زمان ومكان، حتى نستطيع قيادة الاصطفاف العربي والإسلامي للنموذج العالمي الجديد، وهو ما تسعى إليه رؤية 2030 .
من مكة الميلاد.. إلى مكة المستقر، وما بينهما حكايات ليست كالحكايات وتجارب ليست كالتجارب؛ كانت له كما يقول الفيصل «هي التي شكلتني فكر إنسان، والتي شكلتها للوطن بنياناً، حضرتُ وتابعتُ وأقمتُ مجالس الرجال وطارحتُ وقلّبتُ ونازلتُ تجارب الحياة، بالمعايشة تارة، والتحدي تارة، طفلاً وشاباً ورجلاً، واليوم أكتبها كهلاً وأتركها لمن بعدي أملاً، عسى أن يجدي فيها فائدة، لأمة رسالتها بالإسلام رائدة» 145 .
هذا هو خالد الفيصل التطبيق الفكري الحي الذي لن يكون مجرد «رجل تبسم ومشي» في ذاكرة وإنجازات التاريخ الوطني، بل مبدعاً شكّل وجداننا حتى أصبح جزءاً منا ومن هويتنا الأدبية والعاطفية، ومؤسساً لرؤية فكرية وثقافية وصانع إنجاز أسهم في نهضة وحضارة المجتمع، ومسؤولاً أينما حلّ تزّهرت الصحراء تحت قدميه وتعالت النخيل بجواره، وأنبتت سفوح الجبال ورد حياة بمطر إنجازاته.