قدَّم برتراند راسل أربع محاضرات ناقش فيها علاقة العلم بالأخلاق، ونُشرت هاته المحاضرات في كتبه (أثر العلم على المجتمع) و(النظرة العلمية) و(الدين والعلم). وبحثه في هذا الموضوع هو امتداد للإشكال المعاصر لهذه العلاقة المربكة بين العلم والقيم الإنسانية التي أنتجتها البشرية خلال مئات من القرون عبر الأديان والفلسفة والثقافات عموماً. ويعتبر مجال القيم والأخلاق البشرية من أهم ما يتم طرحه في فلسفة العلم المعاصرة لمحاولة التوفيق بين منتجات العلم المعاصرة - التي غيّرت الفهم من الإنسان الميتافيزيقي إلى الإنسان البيولوجي ومعه تتغيّر القيم وتُستبدل بقيم علمية أكثر منها ميتافيزيقية- وبين القيم البشرية.
وينطلق راسل في بحوثه من كون العلم لا يهتم بالقيم، والقيم هي بحث فلسفي ميتافيزيقي، وهذا ينم عن الثنائية المعهودة في تاريخ الفلسفة (المادي/الروحي) أو (الذات/الموضوع). فالقيم ذاتية وليست موضوعية، فهي تختلف من شخص لآخر، وطبّق عليها مبدأ التحقق التحليلي للجملة الأخلاقية، وهذا لا يعني الانحلال -بحسب طرحه-، لذلك فإنه يركز على أن العلم انتقل من التأملي إلى التجريبي، وينتقد تأملات أرسطو كحادثة عدد الأسنان المشهورة عنه حينما كان يظن أن عدد أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل، ولم يكن يضيره لو فتح فم زوجته وعد أسنانها، لكن هذا المثال الذي يناقشه راسل -ويوجه النقد المباشر على أرسطو وباحثي الكلاسيكيات من خلاله- يدل على ملحظ مهم بين التأملي الفلسفي والتجريبي العلمي.
ويؤكد راسل على أن العلم قد هدد الأفكار الميتافيزيقية وغيّر مفهومنا عنها، وضرب أمثلة بالسحر، وعلاقتنا بالنجوم، حتى إن الداروينية لم تهدد العقائد فقط، بل هددت الليبرالية أيضاً التي تبحث في المساواة القائمة على تصورهم الديني للإنسان.
وحتى يواكب بين العلم المعاصر والقيم فإنه يعتبر العلم مفيدًا للبشرية بتوفره على شروط ثلاثة: إلغاء الحروب، التوزيع المتساوي للسلطة، تحديد النمو السكاني، لأن هذه المواضيع الثلاثة أثّرت بجلاء في علاقة البشر ببعضهم في المرحلة المعاصرة.
ويحيلنا راسل إلى أهمية العلم من خلال مساهمته في التغيير عبر مجالين:
التقليل من الأشياء السيئة كالتخفيف من الجريمة بعلم الجريمة، واكتشاف الكهرباء للأماكن المظلمة داخل المدن مما قلّل الجرائم.
والإكثار من الأشياء الجيدة كانتشار الاهتمام بالعلم، حتى إنه من مبالغاته يقول بأنك قد تركب مع سائق تاكسي في نيويورك فتجده يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة.
ويأخذ راسل (الضمير) كمثال ليناقشه بين الفلسفة والدين، فالخير بين الضمير المسيحي الذي يكفي أن تعود إلى ضميرك لتعرف الخير، وبين الفلسفة التي اختلفت فيه كثيراً هل هو معرفة الله؟ أم هو اللذة؟ أم هو الاستمتاع بالجمال؟! ولذا فإن التفكير الفلسفي والعلمي سيؤثّر في فهمنا للأخلاق والخير باعتباره الهدف الأسمى للأخلاق.
ومثاله العلمي الواضح لإشكال الفلسفة والعلم والدين هو الديموقراطية كعمل سياسي، فهي توصل إلى اللذة بحسب فلسفة بنثام، بينما نيتشه يريد السوبرمان الذي ينقذ البشر من إشكالاتهم وهذا قد لا يتأتى بالديموقراطية بحسب طرح نيتشه لأن البقاء للأصلح كما تفيد به نظرية التطور.
وهنا يقيم فارق مهم جداً بين العلم قديماً الذي كان يبحث عن الحقيقة؛ بينما العلم المعاصر الذي يتجه إلى الشك العلمي، ولم تكن الحقيقية الميتافيزيقية ذات اهتمام لديه.
** **
- صالح سالم