تلعب الأسرة دورًا أساسيًّا في التنشئة النفسية للطفل؛ فمن الأسرة يستمد الطفل الدعم النفسي والمادي والوجداني، وكذلك يكتسب مهارات التفاعل والتوافق في الحياة. وقد لاحظ الكثير من الباحثين أن الأسرة تسهم بقدر كبير في نشأة المرض النفسي عند أفرادها؛ فالاضطرابات النفسية لا تأتي من فراغ، ولا تحدث في العدم، بل هناك أسباب وعوامل تساعد على نموها وتطورها. ولكن قبل أن نستعرض العوامل التي تساعد على ظهور المرض النفسي عند الفرد علينا أولاً أن نحدد ما المقصود بالمرض النفسي psychopathology؟
المرض النفسي في أحد تعريفاته يشير إلى خلل وظيفي في الجوانب السلوكية والوجدانية والتفاعلية والإدراكية للفرد. ويرى العديد من علماء النفس، مثل ماير Meyer وسوليفان Sullivan وأكرمان Ackerman، أن الاضطرابات النفسية تنشأ نتيجة لعوامل باثولوجية داخل الأسرة، أو كنتيجة لعدد من التفاعلات المرضية والاتصالات الأسرية الخاطئة faulty family communication. فالشخص المضطرب نفسيًّا هو انعكاس لأسرة مريضة، عبّرت عن مرضها في اضطراب أحد أبنائها.
وفيما يأتي نماذج لعدد من التفاعلات والأنماط المرضية الشائعة في الأسر المولدة للمرض النفسي:
1- المناخ الوجداني غير السوي Abnormal Affective Climate
يقصد بمفهوم المناخ الوجداني داخل الأسرة نمط حياة الأسرة، وما يسود فيها من علاقات تتسم بالحب أو العداء، بالتقبُّل أو النفور، بالاسترخاء أو التوتر.. فالمناخ الأسري ليس وحدات مستقلة، تعمل بشكل منعزل، بل هو نظام ديناميكي dynamic، تظهر نتائجه في الخصائص المميزة للنظام الأسري. ولاحظ أكرمان أن في ذلك المناخ يسود نوع من التناقض بين ما يبدو على السطح وما يحدث في الحقيقة/ الواقع. فما يظهر للجميع هو أسرة مترابطة وهادئة إلا أن هذا الهدوء ليس هدوء سكينة واطمئنان، بل هو هدوء ركود وموت وجداني. وما يبدو من ترابط ظاهري، تحرص الأسرة على إبرازه، يعكس التوترات الكامنة والقائمة بين أفرادها. فالوالدان في تلك الأسرة محافظان، يحرصان على أن تبقى كل الأشياء كما هي؛ لذا ينتشر في هذه الأُسر ما أسماه أكرمان الموت الوجداني affective deadness. ومن هنا يمكن ملاحظة فقدان تلك الأسر مشاعر الدفء والتلقائية والحيوية. وعلى سبيل المثال: قد تحرص تلك النوعية من الأسر على بعض الطقوس التي من شأنها الإيحاء بالتماسك، مثل اللقاءات الأسبوعية الدورية، أو الاحتفال بنجاحات أبنائها، إلا أن تلك اللقاءات تفقد معناها؛ فهي كلمات بلا شعور، أو تجمعات بلا مضمون (ينظر كل منهم إلى الآخر، ولكن لا يراه). وفي هذا الجو المضطرب يخشى الجميعُ الجميعَ، ولا يثق أحدٌ في أحد، ويتجنب أفراد الأسرة التحدُّث في أي أمور قد تجلب الملامة أو السبّ أو الإهانة، وأخيرًا يشير أكرمان إلى شيوع الدوافع العدوانية والجنسية داخل تلك الأسرة، إلا أن كبت كلا الدافعين يجعل أفراد تلك الأسرة يسقطون إحباطاتهم على العالم الخارجي.
2- الرابطة المزدوجة Double Bind
يعد عالم النفس جريجوري باتسون Bateson هو صاحب فرضية «الرابطة المزدوجة» التي تعني ببساطة الازدواج في إعطاء الأوامر أو التوجيهات للطفل، كقول الأم للطفل «إن عليك أن تعتمد على نفسك»، ثم تتدخل الأم في كل قراراته، وتفرض آراءها عليه بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويضرب عالم النفس مورجاترويد Murgatroyed مثلاً طريفًا على ذلك فيقول إن تلك الرابطة تتضح من حكاية «الأم التي اشترت لابنها رابطتَي عنق، وكلما ارتدي واحدة سألته لِمَ لم ترتدِ الأخرى؟!». وقد لاحظ الباحثون في علاج مرضى الفصام انتشار نموذج الرابطة المزدوجة في تلك العائلات؛ إذ يطلب أحد الوالدين أو كلاهما شيئًا من الطفل، ويفعل عكسه. ومن ملامح الرابطة المزدوجة أن الطفل سيعاقَب في كل الأحوال، فإذا اعتمد على نفسه، ورفض تدخُّل الأم، فهو عرضة للوم والسب، وإذا طلب مساعدة الأم فهو أيضًا عرضة للعقاب!! ويرى باتسون أن التشويش والتشويه في التواصل بين الوالدين والطفل قد يؤديان إلى اضطراب في التواصل، ليس فقط بين الفرد وعالمه الخارجي، بل بين الفرد ونفسه؛ إذ يعجز «الأنا» عن فهم واستقبال رسائل الآخرين الخارجية، وكذلك عن إرسال رسائل إليهم.
3- عدم نضج الوالدين Emotionally Immature Parents يُقصد بعدم نضج الوالدين افتقارهم إلى الخبرات والمشاعر الوجدانية التي تدعم بناءهم النفسي؛ فالأب أو الأم غير الناضج وجدانيًّا سيمارس أدوارًا من شأنها أن تساعد في نمو طفل مضطرب وجدانيًّا ونفسيًّا. وفي هذا الصدد يعلق ولمان Wolman، أحد أشهر علماء النفس في مجال العلاج الأسري، بأنه إذا تصادف وتزوج شابٌّ غير ناضج وجدانيًّا من فتاة هي أيضًا غير ناضجة وجدانيًّا فإن كلَيْهما يسعى إلى أن يبحث في الآخر عما يفتقده؛ فهو يبحث فيها عن الأم التي لم يجدها، وهي تبحث فيه عن الأب الذي افتقدته. ولأن كليهما لا يستطيع أن يكون أبًا أو أُمًّا للأخر؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأنهما يتنافسان على دور «الطفل الأكثر تدليلاً» the much loved child، وحينما يكتشف الاثنان أنهما عاجزان عن إشباع الحاجات الوجدانية المفتقدة عندهما، فإن مشاعر الإحباط والاكتئاب تسود الأسرة، وتنصرف الأم إلى الطفل لتجعله مركز حياتها، ويغيب الأب عادة عن تلك العلاقة؛ فيتكون مثلث بين أحد أضلاعه (الأب والطفل) غياب، وبين الضلعين الآخرين (عادة الأم والطفل)، وهي علاقة تكافل symbiosis، وتصير الأم في حالة استحواذ كامل على الطفل؛ إذ إنها تقوم بإزاحة مشاعرها المفترض أن تكون تجاه الزوج إلى الطفل الذي يصبح محور حياتها، ويجد الطفل نفسه مضطرًّا إلى أن يكون الابن النموذجي الذي ينصاع لرغبة والديه، وكلما زاد انصياع الطفل لطاعة والدَيْه توقع والداه منه المزيد، ويستمر الإنهاك العاطفي لمشاعر الطفل حتى يصل إلى مرحلة الاضطراب النفسي.
** **
- د. عصام حجازي
essamhegazy38@gmail.com