الجزيرة الثقافية - محمد هليل الرويلي:
بحجم الكف «عدالة السماء» ما جعله رهين الورق ورائحة الأحبار! محض مصادفة قادته فوق كوة صغيرة, بين كتب ممزقة مرفوعة في البيت القديم، عثر عليه. ربما والده «المحب للشعر» جلبه. كتاب صيغ بأسلوب قصصي سهل, لانتقام القدر ممن ارتكبوا جرائم خفية. لم يكن وصوله ليحدث - يومها - لو لم يُلم به «حُزن» فَقْد صديق في المرحلة الابتدائية. حالما أنهى «عدالة السماء» اتجه إلى الكوة ذاتها؛ ليعثر على «أساطير شعبية»، وغاب عن أنظار أهله وأقران الحي!
ثم عاد يحكي لزملائه بمتعة طاغية حكايات موسومة بذائقة شعبية تراثية حفظها، كأنه يتلوها من الكتاب ذاته بطريقة خاصة, جعلتهم لا يرف لهم جفن! ولما استشعر الملل قادته مصادفة جديدة لمكتبة في «البطحا» ضحّي بفسحته في سبيلها.. سؤال مشروع: أكان «عدالة السماء, وأساطير شعبية» والغرفة المضاءة في زاوية مسجد في القصيم, بمنزلة إرهاصات أولية، ونبوءة لدخول ضيفنا القاص والروائي «محمد المزيني» «زمن الصحوة» وخروجه منها للداعي نفسه؟!
- سنترك للقارئ التهطل والتوريق في كينونة «المزيني» المورق في حقول الوعي, ضيف زاوية «ذاكرة الكتب».
قال «المزيني»: للكتاب الأول الذي استعرته أيضًا حكاية لا تنسى؛ فقد رسمت أيضًا لي طريقًا أقحمني «عالم الصحوة» بغض النظر عن الهوية التي تحملها قيم الصحوة والتزاماتها.. وذاك عندما كنت أجوب الأحياء المتاخمة لحارتنا. كان الشيء الجميل أننا لا نترك فروض الصلاة، وقد تناهى إلى آذاننا نداء صلاة المغرب فهببنا نتقافز حول صنابير المياه للوضوء. لفت انتباهي غرفة مضاءة في زاوية قصيّة من المسجد، رأيت من نافذتها المفتوحة لمعة كعوب الكتب المرصوفة على الرفوف الحديدة؛ فتشاغلت أفكر بها حتى انتهت الصلاة وأنا أُحرّض نفسي على الوصول إليها. انتهت الصلاة فهرعت إليها لأجد الباب مواربًا، واقتحمت المكتبة الصغيرة بلهفة محمومة للكتب. وقفت أمامها أقرأ عناوينها، وكان العقد الفريد أول ما وقعتْ عليه عيني، وإلى جانبه البداية والنهاية. سحبت الجزء الأول منها، وكان يتحدث عن قواعد الحكم والسلطان. لم يرُقْ لي كثيرًا، ثم سحبت الجزء السادس، وكان الصيد في جوف الفراء. هذا ما كنت أبتغيه. كان يتحدث عن أيام العرب ومآثرهم. وبينما أنا غارق في قراءة فاتحة الدرة الثانية إذ دخل عليّ خمسة من الفتيان، بعضهم يكبرني عمرًا، ومنهم بمثل عمري، ثم دخل علينا إمامنا الذي صلى بنا المغرب، مبتسم الوجه، وهو ممن عُرفوا لاحقًا بالإمامة، ولا يزال تحلُّق الشباب حول شيخهم، وجلستُ معهم. عرَّفتهم بنفسي، وعرَّفوني بهم، ثم بدأ الشيخ بالاستماع إلى حفظهم. وحالما انتهى، ولم يتبقَّ على صلاة العشاء سوى دقائق، اكتشفت أنه يعرف أهلي، وأنه من مدينتي «القصيمية» التي نزحتُ منها. طلب مني أن ألازمهم كل يوم في مثل هذا الوقت. وبتردد طلبت منه استعارة الكتاب؛ فنهض وتناوله بيده من الرف، وأعطاني إياه قائلاً «لا يشغلك عنا»؛ فوعدته بالمجيء. من هنا انطلقت رحلتي الوثيقة في عالم الكتب. انتهيت من العقد الفريد، وألحقته بكتب أخرى، كوَّنتْ نواة مكتبتي التي لا أزال احتفظ بها حتى اليوم.
الكتاب أدخلني عالم الصحوة وأخرجني منه
كنتُ قد أبحرتُ - كما قُلت - في عالم الكتب والقراءة حتى توصلت أيضًا بطريق المصادفة التي ربطتها أواصر القراءة المتشعبة إلى أحمد أمين، فقرأت له فجر الإسلام حتى ظهر الإسلام، ومنه اكتشفت فضاء عمالقة الكتّاب المصريين الذين لم أستدل عليهم من المنفلوطي الذي قرأته باكرًا؛ فولجت لأدب العقاد والرافعي الذي تأثرت به أيما تأثير، وطه حسين الذي كان مرفوضًا جملة وتفصيلاً لدى جماعة الصحوة بسبب كتابه المثير للجدل في الأدب الجاهلي الذي حرصتُ على اقتنائه وقراءته، وقد وضعتُ غلاف كتاب جاهلية القرن العشرين لمحمد قطب على غلاف الأدب الجاهلي. وقد حرصتُ على ألا يكتشفوا ما كنت أصطحبه معي في سفراتنا حتى تطفل عليه أحدهم مشكورًا؛ فاكتشف القنبلة الموقوتة التي فجّرت علاقتي بهم، وتشظت، وكان سببًا في فراقي لهم فراقًا بائنًا، حتى لم يبقَ لي منهم سوى تجربة غذتني بالمعرفة والفهم والدراية ببواطن أمور الصحوة وقادتها المؤسسين.
ارتحتُ كثيرًا، وقررت الاحتفاء بخلاصي عاكفًا على كل نتاج الأدب المصري، وكانت الروايات التي بدأت بها مسيرتي القرائية الفضاء الساحر الذي حرضني على كتابة أول مجموعة قصصية، وكنت آنذاك في سنوات الجامعة الأولى، وكانت بعنوان «وساوس»، ونشرت منها في جريدة الرياض ما رفضته مرآة الجامعة لاعتبارات عقدية بحسب رأي المشرف على الصحيفة، واستُدعيت بسببها إلى مكتب رئيس القسم بما يشبه التحقيق! تركت هذه المجموعة عقب فسحها من وزارة الإعلام ردحًا من الزمن حتى تبعثرت أوراقها وفُقدت. ترك في قلبي لوعة، وفي روحي تحديًا للكتابة؛ فعكفت على كتابة رواية مفارق العتمة التي صفها لي زميلي المصري لاحقًا على نظام «الماكنتوش». وبسبب السفر والانتقال فُقدت هي أيضًا، وكدت أن أقع مغبة الحزن، وأنفض يدي نهائيًّا من الكتابة حتى اتصل بي الصديق يخبرني بعد سنة من فقدها بأنه قد عثر عليها. أعادت لي الأمل، ورممت روحي؛ فشرعت بالاشتغال عليها ونشرها.
عند الكتب لا تثق بالأصدقاء
وقال الكاتب الروائي «محمد المزيني»: كنت أضع مكتبتي قريبًا من أيدي زواري الدائمين، وجميعهم كانوا شغوفين بالقراءة، وكنت أحرص على اقتناء النفيس والممنوع آنذاك من الكتب، نُهرِّبها من البحرين ومصر. كان بعضهم يسمي مكتبتي مكتبة الممنوعات. لا يسعهم إلا أن يخرجوا محمَّلين ببعض منها، وأنا أدرك أنها لن تعود إلا بشق الأنفس، وكثير منها لا يزال مفقودًا بين الأصدقاء، منها كتب جبرا إبراهيم جبرا، ومنها روايات منيف، ومؤلفات خلدون النقيب، ودواوين أحمد مطر ونزار وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل.
الكتب العظيمة هي التي تعيد خلق أفكارك
وأوضح: ثمة كتب تخرجك فورًا من نفسك، وتنتزعك مباشرة من عقلك.. تنثر مسلَّماتك، وتعيد ترتيبها من جديد؛ لترى قناعاتك الأولى حول محورية الأشياء التي كنت تراها عظيمة تتقزم أمامها، منها دراسة الثابت والمتحول وزمن الشعر لعلي أحمد سعيد «أدونيس». وأهم كتب نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري هي تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي.